الوطن كحريّة مواطن والمواطن كرهينة دولة

لا نملك إلّا أن نحتكم إلى اللغة، عندما يتعلّق الأمر بالمفاهيم، سيّما في حال قررنا استنطاق حقيقة الهوية، في بُعدها كانتماء إلى وطن، وليس إلى دولة، هي منذ الأزل جلّاد وطن؛ بدليل أنّنا لا نعترف بمواطنة المواطن في أوراقنا الثبوتيّة، ما لم تُتَوّج بوسام الوطن، لا بوسم الدولة التي تهيمن على الوطن، كأنّ إنسان الوطن قد أدرك منذ الأزل كم الوطن، في صفقة الوجود، قيمة، بقدر ما الدولة، في هذه المعادلة، زورٌ. زور بدليل أنها عابرة، فانية، مهما تجبّرت، أو طغت، أو استبسلت، في التشبّث بتلابيب هيمنتها على الوطن، ولكن روح الوطن أقوى من كل طاغية أو جلّاد، فتتحدّى الدول، لتستعيد سلطانها على واقع الوطن. يكفي أن نستكشف حقيقة مفردة «وطن» فنقول أنها لم تكن، في أصلها البدئي، سوى: «وثن»، كإبدال شائع بين الثاء والطاء، في العربية، التي تعني في الديانة الطبيعة: «المعبود»، لأنه بالفعل معبود القبيلة البشرية في طور التكوين، في تلك المرحلة التي عاند فيها الإنسان إبداع المفاهيم، في محاولة باسلة للهيمنة على واقعٍ كينونيٍّ كان فيه هذا الإنسان مازال سليلاً حميميّاً للطبيعة، عابراً للبيئة، مجبولاً على دين الحرية، لأنه ظلّ في يقينه وتداً، رغم أفيون الترحال، في ماهيّته كمسقط رأس.

ويجب أن نلاحظ أن العربية فقط اشتقّت هوية الفرد الذي يستوطن الوطن، من الوطن، في كلمة «مواطن»، في حين أبت اللغات الأوروبية إلّا أن تغرّب هذا الفرد عن هذه الماهيّة لتختلق له إسماً آخر يقع خارج نطاق الوطن، كما الحال مع اللسان اليوناني، الذي ينتدب لمريد الوطن إسماً آخر خارج مفهوم الوطن كوطن هو Politis، في حال يبقى إسم الوطن سابحاً في برزخ آخر هو Patrida، المستعارة من Patria كأبوّة، كأنها تتعمّد أن تنفي عنه المواطنة بسبب الإنتماء إلى عالم المدنيّة، المقيم داخل قمقم الكيان الوطني، للتأكيد على العمران كطينة أخرى تسكن مظلّة أسمى حجّةً كما الوطن. والمدهش أن هذه النزعة، التي تستقدم إسماً آخر إلى ساحة مفهوم المواطنة معزولاً عن طبيعة انتمائه إلى حرم معبود هو الوطن، هي عقيدة استشرت في شرايين كافة اللغات الأوروبية، بداية باللاتينية، ونهاية ببقية اللغات الأوروبية المنبثقة عنها. ففي اللسان اللاتيني ترد كلمة وطن في صيغته كـ Patria، في حين تطلق على المواطن كلمة Civis الدالّة على المدينيّة أيضاً، كما في اليونانية. وهو ما يحدث في الانجليزية التي تطلق على الوطن       Home land، في حين تنعت المواطن بـ Citizen، المستعارة من الماهية العمرانية أو المدينيّة. وفي الألمانيّة الوطن هو Heimat، ولكن المواطن هو Bürger، المستعار من المقام داخل قمقم سجنٍ هو القلعة أو الحصن (Burg)، أي المحيط المستغلق. وفي الإسبانية الوطن هو Paies، في حين يستعير المواطن إسمه من المدينة وهو: Ciudadano. أمّا في الروسيّة فالوطن هو: родина اشتقاقاً من جذرٍ هو  «род» الدالّ على «الأصل» في بعده الطبيعي، كما في كلمة   природа الدالّة على «الطبيعة»؛ هذا في حين تستنزل اللغة في حقّ «المواطن» كملة أخرى تماماً هي гражданин، كصفة لمستوطن الوطن. والعربية وحدها قاومت الإغواء، فأبت إلّا أن تستعير إسم «المواطن» من «الوطن»، وهو ما لم يكن ليحدث لو لم تستمدّ مفهوم الوطن في بُعْد «المعبود»، الكامن في كلمة «وثن»، في تلك الأزمنة السابقة على التوحيد، التي لم تكن فيها عبادة الأوثان تجديفاً في حقّ الحقّ، وهو ما يبرهن على حرص هذه العقليّة على استنزال الماهية القدسية في حقّ الوطن. هذا في حين تعتمد لغة بدئية كالليبية القديمة، في صيغتها المستخدمة في لسان طوارق الصحراء الكبرى، كلمة «آغرم» للتدليل على الموقع العمراني، أو «أكال» للتدليل على البلد، ولكن معنى الوطن يبقى رهين تجربة المواطنة، المنطوقة في كلمة «مزغ» الحاملة لثروة دلالات، أوّلها: المقام، أو المنتجع، أو السكن، أو السكّان، ومفردها أمازغ، أو أماهغ، أو أماشغ، كإبدال شائع بين الزاي والهاء والشين، حسب اللهجة المثلّثة الأضلاع، المستعملة في شمال أو غرب أو شرق الصحراء الكبرى. ولمّا كانت الزّاي تتعاقب لفظياً مع الغين، فإن كلمة «مزغ» لا تلبث أن تتحوّل في لسان الطائفة التي هاجرت إلى الشرق، إلى: مزر، التي هي «مصر»، كإبدال تقليدي بين الزاي والصاد والسين. وهي تنوء بعبء حمولة مفاهيم في مفردة أمازغ، (جمعها أمازيغ)، أو أماشغ، أوّلها: الشجاع، أو النبيل، أو السَّليب. وعلّ المفهوم الأخير أكثرها استحقاقاً للتأمّل. انطلاقاً من حقيقة المواطن، الذي أجبرته الظروف على استبدال محراب حرّيته بالترحال لأن يسلّم زمام أمره للمكان، ليغدو سَليباً بأصفاد المكان، مرتضياً عبوديّة وقوعه في شَرَك العمران، ليستعير طينة الأسير، المترجمة في هوية «المقيم»، سيّما إذا علمنا أن هذا النموذج المهاجر، لم يؤمن بالوطن إلّا كقيمة: قيمة يحملها في الباطن أينما حلّ، هي في يقينه الطبيعي «وثن» يسكن الوجدان، ومن الطبيعي أن تستعير هوية المعبود، يوم يهجع ذلك النموذج السّامي، المدعو في لغة القوم زعيماً، مسكوناً بكل القيم الأخلاقية التي اعتنقتها القبيلة العابرة أفيوناً، ليستريح في باطن يابسةٍ، كانت دوماً مسقط رأس الهوية، لتكون له الملاذ الأخير، ليتماهى بالمعنى في هذا المسقط بوجوده في الباطن، مستعيراً هويّة المعبود، الجدير بأن يحتلّ منزلة الوطن.

فما هي الدلالة الكامنة وراء إنكار المواطن الإنتماء إلى قدس أقداسٍ هو الوطن، كما نقرأه في كل هذه اللغات، التي لا تعني هنا مجرد هويّات ثبوتيّة، ولكنها تدلّ على اعتناق ماهيّات كينونيّة، لا نملك إلّا أن ننتدبها في وجودنا قدراً؟

الدلالة في الاحتفاء بالطينة المدينيّة، أي الحضريّة، أو العمرانيّة، واحتقار كل انتماء إلى أيّة سليقة لا تدين بدين واقعٍ مطوّق بحصون، هي بالطبع سجون، محكومة بمشيئة سجّان، لا ضمان في ألّا يتحوّل جلّاداً، مترجماً في حرف بعبع نسمّيه إسماً غامضاً هو: الدولة، مستعار بدْئيّاً من «يدْوَل»، الدالّة على النموّ، أو النشوء، أو الإستواء في كيان بوجه عام، فكيف لا نقنع بالحجّة القائلة بأن الإنسان لا يستمريء أفيوناً، كما يستمريء أفيون العبودية، بدليل أنه يرفض، عن وعي، نعيم الحضور في مسقط رأسٍ هو البريّة، ويهرع إلى الأسر، ليسلّم زمام أمره لشبحٍ يسلبه الحرية، مقابل وهم أمانٍ يتحقق بفضل دسّ الرأس في زحام قطيع، ثم لا يستحي أن يُستَنزَل في حقّه القصاص، الذي حُرم بفضله من دخول ملكوت الله، عندما قام القدّيس فخلع على سلالته لقب «الأمّة الدنيوية»، في مقابل «الأمّة الإلهيّة»، التي صارت حكراً على القبيلة التي اختارت الهجرة وطناً؟

فبنود الصفقة الحضرية هي التي قضت أن يتنازل ناس القطيع عن حريّتهم، مقابل أن يهنأوا بالعيش في أرباع القطيع، لأن الصنم الذي نصّبوه على أنفسهم معبوداً، وسمّوه دولةً، هو مجرّد شبح، ولكنه استعار سيماء البعبع بفضل إدمانهم الصلاة في محرابه المزوّر، ليمنحوه تفويضاً مطلق الصلاحية في التصرّف في كل ما متّ لوجودهم بصلة، فلا يكتفي بأن يحتكر أحلامهم، ويصادر وجودهم، بمصادرة حريّتهم، ولكنه يأبَى إلّا أن يختلس أرواحهم أيضاً.

أمّا المفهوم، في صيغته الحضرية، كما تقترحه علينا الصيغ الأخرى في اللغات الأوروبية، فهو حجبٌ متعمَّد لهويّة الوطن لحرمان المواطن العمراني من شرف الإنتماء إلى ملّتها ، لسببٍ بسيط هو اغتراب هذا النموذج عن روح الوطن، عن حقيقة الوطن، عن القيم التي يتغنّى بها الوطن، لأنه طريد وطن، انشقّ عن قبيلة الوطن، التي اعتمدت الهجرة في وجودها ناموساً، فشقّ عصا الطاعة عن المحفل، فأقبل هارباً، ليستجير بسجنٍ يعتقد أنه وطن، في حين أنه مجرد مدينة، مجرد تجمّع ارتضى أن يقيم في القمقم، ليصير عضواً في محفل الأسرى، ولذا فهو لا يستحقّ الفوز بشرف اعتناق إسم الوطن في صحيفة الهوية، ليبقى موسوماً دوماً بقدر الاغتراب عن الوطن، مكتفياً بوَسمٍ مهين هو: المدينيّ، أو الحضري، أو العمرانيّ، الدالّ في المفهوم على: القنّ!

فالوطن يستنكر أن يستنزل ساحته مخلوقاً تنكّر لهويّته الطبيعيّة، فتقبّل الحضور في واقع المدنية، مرتضياً الإستسلام لمشيئة شبحٍ دخيل هو الدولة، ليقايض بهذه الصفقة حرّيته، مقابل غنيمة مزوّرة هي الترف!

فأن ننزل أرضاً لا يعني أنّنا نلبّي العهد، فنحلّ في رحاب وطن، لأن الوطن وطنٌ بالذخيرة الروحية التي تسكنه، لا بموقع اليابسة الذي نسكنه.

فالوطن، كمفهوم، رهين الحرية، ولكن نزيل الوطن، في البُعد الحضري، رهين بعبعٍ إسمه الدولة!