أولا: التاريخ والنشأة

طوال تاريخ الحروب القديمة كان أسلوب قيادة القوات في ميادين القتال يعتمد بصورة مباشرة على قادة الجيوش المتحاربة، وكان العامل الحاسم في المعركة للجيش المدرب جيدا هو براعة القائد ومهارته الشخصية، وقدرته في إدارة المعركة والسيطرة على الجنود، بلغة العصر كان القائد هو مركز القيادة والسيطرة الميداني.

لأن القوات في الجيوش القديمة كانت ما بين قوة مترجلة وقوة تمتطي أظهر الخيول، وفي مرحلة تالية أصبحت راكبة للعربات الحربية التي تجرها الدواب، لذلك كان من السهل على القائد الذي يحتل مكانة القلب من جنوده في موقع المنتصف بين أجنحة قوات الجيش أن يصدر الأوامر، وأن يسيطر ويدير العمليات، كانت أعداد الجنود تتزايد في الجيوش مع مرور الوقت، مما استدعى أساليب مبتكرة لإعطاء التعليمات للقوات الموجودة على مبعدة في الأطراف؛ مثل رفع أعلام بألوان معينة أو توليد أدخنة ذات ألوان مختلفة، وهكذا كانت العلامات اللونية تحتوى في طياتها دلالات متفق بين القائد والقادة الفرعيين، بناء عليها تنفذ قوات الأجناب البعيدة خطط وتحركات تم تحديدها سلفا، أو تساعد على المناورة بالقوات أثناء إدارة المعركة.

بعد وصول البارود إلى أوروبا وانتهاء الإقطاع وما تلاه من بدء الثورة الصناعية أخذ تطور الجيوش منحنى آخر، أحدث درجة اختلاف كبير في بنية القوات التي صارت تعتمد على البندقية بدلا من السيف والمدفع عوضا عن المنجنيق، ومن ثم تغيرت التكتيكات بين القوات المتحاربة، لكن أساليب القيادة والسيطرة لم تتغير كثيرا رغم اتساع حجم الجيوش.

أحدث اكتشاف "ألكسندر غراهام بل" للتليفون باستخدام خطوط من الأسلاك واكتشاف "غولييلمو ماركونى" للاتصال عبر موجات الأثير نقلة هائلة في أساليب القيادة والسيطرة، إذ أسفرت هذه الاكتشافات بعد إعادة تطويعها للاستخدامات العسكرية عن نشأة سلاح جديد يختص بعمليات الاتصال داخل الجيوش، هو سلاح الإشارة، وأصبح منوط به تنظيم عمليات الاتصال على كافة المستويات بين القيادات والوحدات العسكرية وفى داخل التشكيلات في السلم والحرب، وتأمين هذه الاتصالات ضد أي اختراقات أو إعاقة.

هكذا شهدت أساليب السيطرة على القوات تحولا جذريا، تمثل في قدرة القيادة العامة والقيادات التعبوية على التواصل؛ بعد التضخم الفائق في حجم الجيوش والاتساع الهائل في ميادين القتال، وتمدد مسارح العمليات لتصبح منتشرة أحيانا في عدة دول، ومع الاستخدام الذي تم على نطاق واسع للأجهزة اللاسلكية بدأت الجيوش المعادية في الدخول على الترددات والتصنت على الأوامر والمكالمات، والقيام باقتحام كابلات خطوط الاتصال الأرضي، مما اضطر سلاح الإشارة إلى تشفير الاتصالات، ومن ثم العمل على فك الشفرات المستخدمة من قبل الأطراف المعادية، ومن أشهر الوقائع في هذا المجال نجاح الحلفاء في فك شفرة "إنيغما" بالغة التعقيد التي كان يستخدمها الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، وقد أنتج فيلم أميركي بريطاني The Imitation Game يحكي ملابسات ودرامية فك شفرة إنيغما.

تغيرت طبيعة المعركة اعتبارا من العقد الثاني في القرن العشرين؛ وتبدلت وظائف التشكيلات أحادية الفعل أثناء الاشتباك، أي أن القوات في ميدان المعركة البرية لم تعد تعتمد على جندي مشاة ضد جندي مثيل له في القوات المقابلة، السبب في هذا التغير تداخل الأسلحة الجديدة التي صارت عنصرا فاعلا في وقائع المعركة على الأرض، حدث هذا مع ظهور الدبابة، والطائرة التي أصبحت قادرة على قصف القوات في الجبهة ومناطق الأعماق وخطوط الإمداد، وتطور استخدام المدفعية من الضرب المباشر إلى الضرب غير المباشر، ودور القوات البحرية المتنامي في أعمال القتال، وظهور المركبات الميكانيكية والعربات المدرعة.

بعد هذا التغير ظهر مصطلح معركة الأسلحة المشتركة، الذي فرضته التغيرات التي طرأت على طبيعة المعارك، وكثافة تداخل الأدوار من أسلحة مختلفة في نفس الآن داخل التشكيل الواحد أثناء العمليات، حيث يمكن في نفس التوقيت في مسرح العمليات أن تتشارك الدبابات مع المشاة في ظل والتمهيد والدعم النيراني المستمر من المدفعية والقوات الجوية، كل هذا التداخل أصبح يحتاج إلى تنظيم دقيق، وتعاون وثيق، تشرف عليه قيادة مسيطرة قادرة على ضبط الأداء، وتجنب الأخطاء والارتباك.

هكذا استدعت ضرورات معركة الأسلحة المشتركة اعتماد أساليب مبتكرة لقيادة القوات والسيطرة عليها، في مراحل الاستعداد، وأثناء الاشتباك، وأصبح على الجيوش كي تنفذ مهامها على الوجه الصحيح أن توفر وسائل وأماكن لمراكز قيادة سيطرة رئيسية وأخرى وتبادلية؛ تبعا لتطور أعمال القتال في المعركة، سواء كانت هجومية أو دفاعية، دور هذه المراكز أن تتحكم وتنظم وتدير عمل القوات، وانطلاقا من أن هياكل الجيوش تنقسم في مستويات تنظيمها إلى استراتيجية وتعبوية وتكتيكية أنعكس نسقها هذا بالضرورة على مراكز القيادة والسيطرة؛ التي أنشأت بالتبعية في كل مستوى من هذه المستويات الثلاث، وصار كل مركز منها يلبي تبعا لمرتبته المهام العملياتية والإدارية والفنية، دون الإخلال باستمرار الاتصال بالمستوى الأعلى.

استمرت الأساليب المتبعة للقيادة والسيطرة دون تغير في أنماطها ومفاهيمها من بعد الحرب العالمية الثانية حتى العقد الأخير من القرن العشرين، لأنه فعليا اعتبارا من بداية التسعينيات أدى بدء التسارع التكنولوجي المذهل في الحصول على المعلومات وتبادلها والثورة الهائلة في تقنيات التسليح إلى تغير بنيوي في طبيعة المعارك، وقواعد الاشتباك، ومن ثم حدثت نقلة غير مسبوقة إجرائيا ومفاهيميا لكل ما يتعلق بالقيادة والسيطرة في الجيوش المعاصرة، مما استتبع حتمية التغير الهيكلي في أنظمة وأساليب عمل مراكز القيادة والسيطرة.