الفكر السّياسيّ، بطبيعته، فكرٌ تجريديّ يتوسّل عُدَّةَ اشتغالٍ يفكّر بها ويحلّل ظواهر السّياسة هي: المفاهيم. هذه حقيقة لا يغيّر منها أنّه فكرٌ شديدُ الارتباط بالواقع وظواهره. الفكر الاقتصاديّ والفكر السّوسيولوجيّ والأنثروبولوجيا هي، أيضاً، ميادين علميّة لتحليل الواقع وظواهره، ولكنّها ميادينُ فكر مجرّد يشتغل بالمفاهيم مثلها، في ذلك، مثل الفكر السّياسيّ.
ومعنى ذلك أنّ واقعيّةَ موضوعِ علمٍ مّا لا تُغيِّر في شيءٍ من علميّته وارتفاع لغته عن مستوى المحسوسات؛ تماماً كما لا يغيّر موضوع العلوم التّجريبيّة - وهو الطّبيعة - من علميّة تلك العلوم ومن ارتفاع أدواتها عن مستوى المحسوس: بما فيه المحسوس الطّبيعيّ.
هذه مسألة إيبيستيمولوجيّة تتعلّق، في المقام الأوّل، ببنية عمليّة المعرفة وكيف تتكوّن، والعلاقة بين موضوع المعرفة والجهاز العلميّ الذي يشتغل بذلك الموضوع. ولكنّه مسألة تحتاج إلى استحضارٍ، دائماً، حين يتعلّق الأمر بالحديث في الفكر: من أجل أن نَحْفظ لمعنى الفكر حُرمَته المعرفيّة، ولئلاّ نهبط به إلى مستوى الكلام اليوميّ الدّارج في شؤون السّياسة والاقتصاد والاجتماع وسواها من المسائل المعيوشة؛ أعني من المسائل التي لا يَقْوى ذلك الكلامُ الدّارج على تجريدها لفهمها فيكتفي منها بما هي عليه من حالٍ، أي من حيث هي محسوسة ومباشرة.
التّفكير في السّياسة تفكيرٌ في ظواهر مجرَّدة وعلاقات مجرّدة لا تُدْرَك بأدوات الحسّ، بل بأدوات العقل: المفاهيم؛ التي هي تصوّرات نظريّة تجريديّة يجري توسيطُها لإنتاج معرفة بتلك الظّواهر. وظواهر السّياسة، التي هي من طبيعة مجرّدة، لا حصْر لها: الدّولة، السّلطة، الأجهزة، المؤسّسات، النّظام السّياسيّ، الصّراع، التّسويّة، التّوافق، السّيادة، القانون، التّمثيل...إلخ. حين يشير التّحليل السّياسيّ إلى أيٍّ من هذه المفاهيم لا يَحْصُرُه في أيّ حالةٍ واقعيّة بعينها، إلاّ حين يختار أن يدرس تلك الحالة بالذّات. وحينها لا يفقد المفهومُ المنطبقُ على الحالة الواقعيّة الدّراسيّة (= دولةٌ مّا مثلا) مفهوميّته لمجرّد أنّه وقع على حالةٍ من الواقع، بل يظلّ مفهوماً مكتنزاً بمعناهُ النّظريّ.
مناسبة هذا الكلام هو ما نصادفه، كثيراً، من نصوصٍ تتناول الفكر السّياسيّ الإسلاميّ ممثَّلاً، عندها، في ما كتبه علماء الكلام في الإمامة، وفقهاء السّياسة الشّرعيّة، وكتّاب الآداب السّلطانيّة. والحال إنّ أكثر مفاهيم ذلك الفكر إنّما مَأْتَاها من علميْ الكلام والفقه لا من السّياسة إلاّ في القليل النّادر منها؛ كما في الأدب السّلطانيّ. والحقّ أنّه مع هذا المانع في التّراث السّياسيّ الإسلاميّ، يتعسّر إطلاق تسمية فكرٍ إسلاميّ عليه أو - لنقل ببعض المرونة - هي تجوز، فقط، إنْ هي حُمِلَتْ على معنًى مجازيّ للتّمييز بينه وغيرِه من أبواب التّراث الإسلاميّ، ليس أكثَر. لِنَشْرح ذلك قليلاً، ولنأخذ مثالاً ما كتبه المسلمون القدماء عن السّلطة بحسبانها موضوعاً من موضوعات السّياسة.
بدأ التّفكير في السّلطة في تراث الإسلام (كلاماً وفقهاً وآداباً سلطانيّة) من باب شخْصَنَتها؛ والشّخصنة وجْهٌ من وجوه الوعي الحسيّ. السّلطة، عندهم، هي الإمام أو الملك أو السّلطان؛ إليه تُختَزَل وفيه تتجسّد. هو هي، وهو السّياسةُ ومصدرُها، ومنه تَتَوالد الوَلايات والسّلطات وتصدُر فتتوزّع على مَن هُم تحتَه من أعضاء الجسم الاجتماعيّ. لا وجود لكيانٍ تجريديّ مستقلّ عن الأفراد اسمه السّلطة؛ السّلطةُ تُعَرَّف بمن تُنْسَب إليه، فهي هي صاحبُها الجالس على كرسيِّها، الماسكُ بأزِمَّتها حتّى أنّها قد لا تكون موجودة في الوعي إلاّ بوجوده الذي منه تستمدّ وجودَها.
هكذا دار التّفكير في السّياسة والسّلطة، في التّراث الإسلاميّ، في هذا المدار المُغْلَق الرّتيب فما كان ممكناً، لذلك السّبب، أن يقوم في الإسلام فكرٌ سياسيّ، على الحقيقة، إلاّ على سبيل المجاز كما قلنا، لأنّ موضوعه لم يكن إبّانئذٍ قد تكوَّن بعد؛ إذِ الإمامُ أو السّلطان (= صاحب السّلطة) ليس موضوعاً لعلمٍ إلاّ متى كان جزءاً من موضوع العلم الحقيقيّ (الذي هو السّلطة والدّولة). وتصبح المسألة أعوص حين يكون هذا الذي تتجسّد فيه السّلطة السّياسيّة أو تتشخْصن هو نفسُه الذي يتجسّد فيه الشّرع بوصفه "نائباً عن صاحب الشّريعة" - كما يقول المتكلِّمة والفقهاء - فتكون النّتيجة أنّ الحدّيْن معاً (السّياسيّ والشّرعيّ) يختلطان في شخصه ويَعْتاصُ الميْزُ المنهجيُّ بينهما.
على أنّ شخصنة السّلطة شَرَعت في الانحسار التّدريجيّ مع الفلسفة السّياسيّة نسبيّاً (ونقول نسبيّاً لأنّ فكرة الموجود الأوّل في الكون - عند الفلاسفة المسلمين - الذي تصدر عنه بقيّة الموجودات ظلّت تُلقي بقيودها على تصوُّر الدّولة، وترسُم للرّئيس الأوّل في المدينة دورَ الموجود الأوّل في الكون). وبذلك أخْلَت مكانَها - إلى حدٍّ - لميلاد شكلٍ ابتدائيّ من تجريد السّلطة، أي النّظر إليها بما هي صعيد من أبنية المجتمع الأخرى غير مرتبط بمن يشغله من الأشخاص قدْر ارتباطه بهيئات اجتماعيّة (فئات، عصائب، أُسَر...)، أو بأدوار تنظيميّة في المجتمع. وسيبلغ هذا التّجريد مداهُ الأعلى مع ابن خلدون، الذي أدرك السّلطة في استقلالها عن صاحبها، وفي علاقتها بالعوامل التي تقرِّر قوّتَها وضَعفها (الاعتصاب، الشّوكة، التّرف، المال...)، بل الذي أمكنه الذّهاب إلى حدودِ وعْيِ الفارق بين السّلطة والدّولة وعياً نسبيّاً... في وقتٍ مبكّرٍ من التّاريخ.