الأمر القرائي، تحريضٌ على الاستقرار، في فعل القراءة؛ لأنه، عندما يتكرّر في مفهومه كنداء، إنّما يستعير ماهيّة حجر الحكمة، القادر على كشف المحتجب في الوجود، الذي لن يكون غير مساءلة الحقيقة في حصنها الغيبي. وهو، بصفته كنداء، دعوة محمومة لخوض تجربة وجودنا كسؤال، لا كجواب؛ لأننا نحن الأسّ في مغامرة هذا السؤال، في واقعٍ ليس لنا أن نكون فيه جواباً على السؤال.

ولكن فعل "إقرأ" يأبَى إلّا أن يجود علينا بذخيرة أخرى من مستودعه السخيّ. فكلمة «قِرَى» (بالألف المكسورة)، ما هي إلّا رديفٌ مستعارٌ من منظومة الكنز ذاته الذي أتحفنا بـ"إقرأ" الألوهية، لأن المنطق يقول إن مَن أفلح يوماً في أن يقرأ، ليمارس في تجربته نعمة الوعي بالأشياء، وبما أخفته الأشياء عن أنظارنا، وحده يستطيع أن يمارس في حقّ الأغيار دين القِرَى، الذي اعتمدته كل الديانات مقياساً للإيمان بقيمة حضور الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، ليستنزل في حقّه واجب الضيافة، كلّما انقطعت به السّبل، في عالمٍ الوجود فيه مجرّد رحلة سفر.

إنه ذلك المستوى من الوعي، الذي تناولناه في صيغة "يغرا" أو "يجرا"، الدالّة على العقل، ثمّ على "الوعي" المستعارة أصلاً من «إقرأ» (كإبدال شائع بين القاف والجيم والغين، لأنها بمثابة حرف واحد في العربية، بل وفي جلّ اللغات)، كتعبيرٍ عن مستويات المعنى في علم القراءة، فكّ الحرف فيه مجرّد استهلال لرحلة طويلة، ليس العقل، ثمّ الوعي، إلّا منزلتين في معراج تأمّل يعتنق الحقيقة ديناً، في مستواه الأبعد منالاً. الحقيقة التي قضت بأن يكون كل إنسانٍ ملاذاً لأخيه الإنسان، وفردوساً في صحراء وجودٍ، الكلّ فيها غرباء، عملاً بوصيّة القدّيس القائلة: «استضيفوا الغرباء، فإن أناساً كثيرين استضافوا في الغرباء ملائكةً، وهم لا يعلمون".

وهو ما يعني أن القِرَى، أو إتقان استضافة الغرباء، هو طقسٌ قدسيّ لا يختلف عن أداء صلاة، لأن الفحوى فيه ذات بُعد دينيّ، الاستهانة بها تجديف لا في حق علاقة مع مخلوق، ولكنها تجديف في حقّ خالق هذا المخلوق، وإلّا لما اختبر إيماننا بالقيم، بدسيسة ماكرة، بقدر ما هي قدسيّة، كحلول الملاك في ديارنا متنكّراً في مسوح مهاجرٍ عابرٍ لبرّ بريّة.

وبالطبع فإن الجود هنا لا يتعلّق بحرف الوليمة، المتمثّلة في الذبيحة أو ما شاكلها من طعوم، ولكن في تضحية أعظم شأناً، لن تكون سوى الجود بنصيبٍ من روح، ممهورٍ في كلمة سرٍّ هي الحبّ، لتوثيق عهد. العهد المترجَم في مبدأٍ جلَلٍ هو: القِران، قِران إنسانَين عاقلين، واعيين بحقيقتهما، بطينتهما الّا أرضية، ليحقّقا ذلك التماهي، الذي يتحوّل فيه كل طرف منهما إلى "أنا" الطرف الآخر المضمرة. يتحوّل "أناه الثانية"، حسب وصية أفلاطون، ليتلاشى كل طرفٍ في قرينه، في شراكةٍ تنفي في كليهما شرَك منكِر هو التثنية، ليلتئما في "الواحد"، في القِران، المستعار أساساً من "قِرَىً" نفسها، في صيغة تنوين، مستعارتان كليهما من معجم "إقرأ" المهيب!