إقرأ ليس مجرّد أمر مشفوع بالمشيئة القدسيّة، ولكنه حُكْمٌ وحَكَمٌ في آن. فإذا تأمّلناه مليّاً اكتشفنا أنه الحُجّة لا في المنطق وحده، ولكن في حقّ قرين المنطق، وهو الكينونة.

فالكلمة فعل أمر، مركّبة من حرفين مهيبين هما القاف والراء. فإن عَنَّ لهما أن يقترنا في «قرّ»، فسوف يجودان بثروة معنوية هي: الإعتراف! الإعتراف في صيغة أمر، كما يليق بوضعيّة تخضع للمساءلة. أي الحثّ على وجوب الإعتراف بماهيّة، الاعتراف بوجود هويّة، الترجمان لهما هو الإعتراف، الدالّ على الإقرار بحالٍ، لن يكون هنا سوى الكينونة. ذلك أن «قرّ» التي تعني في لساننا الشائع «سكن»، مؤهّلة لأنْ تنبيء عن فحوى أبعد منالاً، فيما إذا استنطقنا فيها البُعْد البدئي، وهو التعبير عن انقطاع الأنفاس في رئة رضيع انتابته نوبة بكاء عصيّة، ليشرف على النزع الأخير كوصفة استعاريّة لـ ميتة. أمّا في حال اعتمدنا في الأمر حرف علّة هو الألف، في مطلع الملفوظة وفي مصرعها، كصياغة ألفناها في «إقرأ»، فسوف يفاجئنا مستودع الأمر الإلهيّ بذخيرته المترجمة في دلالة مثيرة للفضول هي: النداء! فلا نملك إلّا أن نطرح سؤالاً: لماذا توسّم فعل «إقرأ» وسام النّداء؟

هذا يدفعنا لاستجواب الحقيقة في أي فعل قرائيّ، سواء في بُعده الحرفي، أو في بعده المجازي. فالقراءة التي نمارسها، لنسوّقها في تجربتنا سبيلاً لاستجلاء المجهول في واقعنا، هي في الواقع أعظم شأناً من مجرّد محاولة لتلقّي العلم بالأشياء، ولكنها مغامرة خطيرة من حيث هي نداء يستدعي استنفاراً بطوليّاً لفهم نواياه. نوايا مترجمة في حرف نداء، يحرّض، في حقيقته، على المجاهرة بالنداء، طلباً لالتقاط وصيّة غيبيّة، من فم المجهول، لأن من لا ينادي، ليس له أن يطمع في نيل خلاص، في شرع الغيوب، بل وفي شرع الواقع أيضاً؛ اعتناق النداء دين كل من قرّر أن يحيا، لأن فعل القرار، إقرارٌ بإدمان أفيون القراءة، بصيغتها كـ«قرّ»، بوصف «قرّ» النواة ككلمة سرّ في أحجية السيرة. فهل يكفي أن نقول أن فعل الإمتثال لأمر «إقرأ» هو قبول بقدر تحرير؟

بالطبع الرهان هو على التحرير في أمر النداء الإلهيّ، وإلّا لما ورد في صيغة نداء.

فالقراءة ليست مجرد إعادة تأهيل، إعادة صياغة للذّات، بما هي إعادة صناعة لما اغترب في تجربة الذات. فالاستجابة للنداء، لأمر «إقرأ» كنداء، هو قبول بمبدأ التغيير، الذي يقود إلى التحرير، لأن المعراج هنا يتنقّل في منازل، قبل أن يحقق المعجزة بالحلول في الكينونة. فهو يبدأ بالتحريض على اليقظة، قبل أن يستقيم في برزخ التضحية. إنه يدعونا لأن نموت (لأن انقطاع الأنفاس في صدر الرضيع هو مِيتة) لكي نستطيع أن نلد أنفسنا من أنفسنا. فنحن نموت ميتة الحرف، لكي نبعث أنفسنا بأنفاس الروح. نرتضي التخلّي عن الحسّ، لكي نحقق ميلادنا الثاني بالحدس. نرفض طوعاً ميلادنا بمشيئة الطبيعة، لنحقق بمشيئتها ميلادنا بالحرية. والرهان هو على هذا الجنس من الميلاد، لأن النداء دعوة لأن نعرف أنفسنا، لنكتشف الحقيقة فينا، لكي نكون أهلاً لأن نكون. فـ «إقرأ» تحمل معنى إنوجِد، تجَدّد، أي كُن. كُن لا بالحرف بالطبع، ولكن كُن بما يبطل فيك الحيوانية، ليُحيي فيك الروح الجديرة بالتأنسن.

وهو ما يعني أن خزانة أمر في مقام «إقرأ» تأبَى إلّا أن تجود بالمزيد عندما تعتمد مفهوماً مرجعياً في تنوير المصير البشري، هو «إعقَل» كرديف لحزمة المفاهيم الدالّة على معجزة التطهير. فالكلمة تعني في لغة البدايات أيضاً «إعقل» كملاذٍ أخير لمن شاء أن يعتنق الخلاص الكينوني ديناً، لأنها أول تنبيه لوجود لُقية حاسمة في تجربة إنسانٍ مازال يستكشف السبيل السبيل لفهم نفسه، ولم يكن ليهتدي إلى المجهول الذي يسكنه، لو لم يتدخّل الأمر القرائي، أو القرآني، ليقوده إلى كلمة السرّ في معجم الوجود كلّه وهو: الـ Sapiens أي العقل. لأننا به نعي، نعي أنفسنا، لتجديد موقفنا من موقعنا، وبالتالي، من عالمنا، إذا شئنا أن نحقق لأنفسنا مكاناً، أو بالأصحّ، مكانةً، في هذا العالم. وهو ما يهب هذا الفعل البسيط سلطةً انقلابية، لن يدرك خطورتها إلّا من أوتي الفروسيّة بممارستها، ليغدو بالقراءة مقروءاً، وأن يكون مقروءاً يعني أن يغدو معقولاً، ليتحوّل من فطرة البراءة، إلى مرتبة الخامة المصهورة بفرن الوعي، ليحقّ له بالمفهوم أن يتبوّأ منزلة العالِم.