ما هي الحقيقة؟ سؤال «بيلاطوس» الخالد، الموجّه للمسيح، الذي اختزل به الحاكم الروماني كل أسئلة الكينونة، ليشكّل صدمة لكل مريد خلاص في واقع هذا العالم الشقيّ، لأن بهذا السؤال البسيط بساطة الحقيقة، نكتشف بُعداً آخر في دنيانا، يبشّر بأمل أن نحقّق في تجربتنا امتلاءً، بعثاً، ميلاداً ثانياً، يختلف عن ميلادنا الأوّل، ميلادنا بالجسد، تلبيةً لنداء الطبيعة.

 ميلادٌ لم نختره لأنفسنا، ولم يكن لنا فضلٌ فيه، لنستيقظ من نومتنا، من ميتتنا الصغرى، وربّما الكبرى، بفضل المفعول الانقلابي في السؤال، لنفعل ما من شأنه أن يجعلنا نحقق في أنفسنا، وبأنفسنا هذه المرّة، ميلادنا الثاني، بأن نقتل في أنفسنا إنسان الحرف، لكي نكون أهلاً لأن ننتمي إلى ملّة الحلم، لنحقق الميلاد بالروح: ميلادنا الحقيقي.

فسؤال «ما هي الحقيقة؟» هو التحدّي الذي انتظره كلّ منّا، لكي يعلم أن السؤال في الواقع هو حجّتنا في عمل ما من شأنه أن يغيّر ما بأنفسنا، كسبيلٍ وحيد لتغيير ما بواقعنا. وبقدر ما يستفزّ السؤال فضولنا، بقدر ما يزعزع أركان حضورنا، لا لأنه يختزل في حرفه كل الأسئلة، ولكن لأنه مفتوحٌ على احتمال اختزال كل أجوبة الكينونة، على ما في هذا الموقف من خطر. ذلك أن السؤال سُئل لا لكي يحقق جواباً، ولكن لكي يكون مرجعاً، هاجساً، وسواساً تعويذةً، في تجربة كلّ منّا، بما هو ضمان لتحقيق اليقظة من مفعول الافيون الحُلُمي، لأن في طرح سؤال من هذا القبيل يتوقّف موقفنا لا من وجودنا وحسب، ولكن موقفنا من معنى وجودنا. فالرهان مبدئياً كان وسيبقى على ماهيّة المعنى.

فالسؤال يولد بطولياً، موجعاً، ومميتاً في آن، فلا يعترف بأية صيغة أخرى، كأن يقول: «أين الحقيقة» أو «كيف الحقيقة» أو «ماذا الحقيقة»، ولكنه ينبثق مزموماً، صارماً، ظامئاً، يضيف بامتلائه الفجيع، عندما ينحسر في قمقم الـ «ما» الوديعة، ليحتمي بحصون زهدها كأداة لا سلطة لها في قانون اللغة، ولا فحوى لها في منطق اللسان، ولا مكانة لها في فقه المكان، لأنها مغتربة عن عالم البيان، إغتراب الحقيقة عن واقع الإنسان، فلا تملك إلّا أن تجرح لكي تحرّض على الإنضباط، مكتفيةً بنفسها، متأمّلةً لذاتها، مثلها في ذلك مثل المعبود، الذي انتدبها لكي تروّض فارساً هو السؤال، فلا تقنع بوجود الـ «هي» هذه ما لم تستغنِ عنها، لاستحداث الصياغة الأنبل في التجربة، لتستقيم في سؤالٍ، هو منذ الآن استصدار لحكم الأحكام الخالد، كما في «ما الحقيقة؟»، على ما في هذه النغمة من تحدٍّ، ومن شعرٍ، ومن ثروة وجدان، تليق بالإنشاد الذي كان رأسمال الملاحم الكبرى. فالسؤال، على هذا النحو، لا يعود كينونيّاً وحسب، ولكنه يغدو كونيّاً بسبب الحمولة الميثولوجية.

فكل ما كُتب منذ بدء الكينونة كان محاولة لترجمة منطق هذا السؤال دون أن يكون معنيّاً بالإجابة على السؤال. فهل هو سؤالٌ بلا جواب؟

الواقع أن سؤالاً من هذا القبيل جديرٌ بأن يبقى بلا جواب، لا لأنه ينفي الحاجة لوجود الجواب، ولكن لأنه مسكونٌ بالجواب، بل وبكل الأجوبة التي يمكن للعقل البشري أن يتخيّلها في رحلة اغترابه الوجيعة. والمسيح كان نبيّاً بما يكفي كي يعلّق على السؤال بعبارة: «حقيقتي ليست من هذا العالم!». فهل إستجار المسيح بالملكوت، كي يستعير من هناك تفويضاً يعصمه من خطيئة الإمتناع عن البوح بالجواب؟ هل يعجز صاحب النبوّة أن يفتي في أمرٍ ذي صلة حرفية بالحقيقة، التي نصّب نفسه عليها وصيّاً؟

كلّا بالطبع! ذلك أن المسيح لن يستطيع أن يجيب على هذا السؤال، لعلمه المسبق بحقيقة الحقيقة، وبحقيقة اللغة التي تعجز بمنطقها أن تكون ترجماناً أميناً، إذا تعلّق الأمر بأمرٍ جلل كالحقيقة، بسبب طبيعة الحقيقة، وبسبب طبيعة اللغة التي لم تُخلَق لتعبّر عن نفسها، فكيف تستطيع أن تُفتي في حقّ الحقيقة، المغتربة عن واقع الأنام بالسليقة؟

ولهذا السبب كان جواب المسيح اعترافاً ضمنياً باغترابه هو عن واقعٍ يبيح أن يصيغ تعريفاً مقنعاً لأحجية الأحاجي، التي أُريدَ لها أن تفقد هويّتها، ما لم تختلق لها معنى، لأن وجودنا سوف يبطل لحظة حصولنا على هذا المعنى، لأن الرهان، الذي يدفعنا لكي نحيا، هو البحث عن المعنى، في ظلّ غياب هذا المعنى. فوجودنا رهين وجود الأسئلة المرجعيّة الكبرى، التي تستفز فينا حمّى الطلب، وسؤال: «ما الحقيقة؟» رأس الذخيرة، التي تلهمنا بأننا جديرون بأن نحيا، لأن بغيابنا فقط نستطيع آنذاك أن نحقق أعجوبة الجواب المنيع على السؤال الفجيع: «ما الحقيقة؟». فنحن ملفّقون من طينة السؤال، ولسنا رهائن الجود بالجواب، وعلّ انسحاب المسيح من المبارزة دليلٌ على تعمّد الإبقاء على السؤال معلّقاً بتغييب الجواب، وهو قبولٌ بالصفقة ترجمه الحكيم «بيلاطوس» بتبرئة يديه من دم المسيح، برغم محاولة الفريسيّين تحريضه كي يشاركهم طقس البطش بالأسير، عندما حاولوا استدراجه بالسؤال عن موقفه من دفع المكوس للقيصر، فأجابهم «أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر» وهو ما يعني في الترجمة: «لا تبخلوا على الله بالتقوى، ولا تبخلوا على القيصر بحُطام الباطل»، لينال، بهذا الحكم، شهادة براءة من تهمة التجديف في حقّ سلطة حاكم اليهودية الروماني، يقيناً منه بأن الخصم هنا ليس شبح باطل، لسلطة فيه هي باطل أباطيل، ولكن الخصم هنا هو في مفهوم التزوير، الذي مارسه الأوصياء على «التوراة» بتجديفهم في حقّ الروح، التي تُحيي، ليعبدوا في الكتاب الحرف، الذي يُميت الحكمة في النصّ، وينفي فيها التقوى.

فسؤال «ما الحقيقة» خالدٌ أبداً، لأنه السؤال الوحيد الذي لا نستطيع أن نجيب عليه، لأننا لو تجرّأنا وأجبنا عليه، فسوف نفقد الحاجة لأن نعيش! لأننا لسنا شيئاً آخر سوى المشروع القائم على المعنى في هذا السؤال، لأننا نحنُ هذا السؤال، وليس لنا أن نطرحه لكي نُجيب عليه، إلّا لكي نبرهن أننا لسنا له جواباً، ولم يكن ليوجد إلّا لكي يدفعنا، لكي نعرف مَنْ نحن، حتّى في حال اكتشفنا أن عمقنا بلا قاع، وكلّما غصنا عمقاً أعمق، كلما اغتربنا عن حقيقتنا مسافةً أبعد. غوصٌ يعبّر حضوراً في سيرورة، سيرورة تبرهن على روح التحوّل المبدع في سؤال الحقيقة، فيتنكّر، بطبيعة التحوّل المبدع في الحقيقة، لوجود حجّة قاطعة في الجواب، مادامت حكمة الجواب، رهينة الطينة في السؤال. والحقيقة، بوصفها ذخيرة السؤال، قطبٌ متنقّل، أي أنها تسكن حرّية هي الهجرة، التي كانت رهان النبوّة منذ الأزل، وحصرها في جوابٍ هو، في حقّها، شهادة على استشهاد. ولم تكن الحقيقة لتكون عنقاء مغرب إلّا لأنها كوكبٌ سارٍ، ومعجزتها، التي استعصت على التأويل، إنّما تسكن هذه السيرورة.