يزدهر في عراق ما بعد 2003 استخدام مصطلحات متنوعة تمنح شخصيات مختلفة دينية أو سياسية أو قضائية أدواراً إنقاذية كبرى تقوم حول فكرة "صمام الأمان" بمعنى أن وجود هذه الشخصيات، بالأدوار التي تؤديها، هو الذي يحمي البلد من الانهيار ويمنع تفكك الدولة!
يزداد استخدام مثل هذه اللغة في أوقات الأزمات السياسية التي أصبحت جزءاً معتاداً من حياة النظام السياسي العراقي، ويرددها في العادة طيف يتسع من ساسة وصحافيين ومعلقين وموظفين رسميين، إما لأسباب تتعلق بسوء الفهم أو بانتهازية أصبحت هي الأخرى سائدة أو خليط من الأثنين.
مثل هذا الخطاب، والتفكير الذي ينتجه ويروج له، جزء من مشكلة العراق الحالية لأنه يحيي القيم القمعية التي ميزت النظام الاستبدادي البعثي السابق. في إطار تحوله من نظام ديكتاتوري يهيمن على السلطة وأدواتها، إلى نظام شمولي يهيمن على المجتمع وتجاربه، صنع ذلك النظام فكرة "القائد الضرورة" الذي يُعتبر وجوده ضرورياً لوجود الدولة واستمرارها!
تستتبع هذه الفكرة الخطيرة اعتبار إن غياب هذا القائد يعني انهيار الدولة وضياع البلد. وهكذا يُختزل البلد، بتعقيده وتنوعه وتاريخه الطويل، بشخص هذا الزعيم الاستثنائي الذي يصبح أوتوماتيكياً "صمام الأمان" والوسيط المتاح الوحيد المفضي للحياة لأنه يمنع الانهيار ويسمح بالاستمرار.
في الثقافة الشعبية العراقية يستخدم مصطلح "تاج الرأس" للإشارة إلى هذا النوع من التفكير الذي يؤكد على أن المرء او المجموع فاقدٌ للقدرة على تدبير شؤونه بنجاح من دون وجود زعيم استثنائي على رأسه، يقوده ويحقق له النجاحات ويحميه من الكوارث.
تكمن المشكلة العميقة المرتبطة بهذه الفكرة في طابعها المناهض للديموقراطية ولمعنى الدولة، إذ إنها تُهمِّش المؤسسات لصالح الأشخاص من خلال تكريس الدور الخلاصي للشخص الاستثنائي على حساب فعالية المؤسسات ورصانتها. فبدلاً من تسليط الضوء على المؤسسات في أمثلة فشلها من أجل تجاوز أسباب هذا الفشل وفي أمثلة نجاحها للاحتفاء بها وتعزيزه ليصبح سلوكاً مؤسساتيا روتينياً ومعتاداً، يُركز على زعماء او متصدري هذه المؤسسات، ليتم ابرازهم كفاعلين ومضحين جعلوا الأشياء الصحيحة تحدث بسبب استثنائيتهم وليس طبيعيتهم كبقية الناس.
في السياق العراقي العام، وكأحد نتائج شخصنة الإنجاز وتقديم الزعماء على المؤسسات، تتراجع هذه الأخيرة في الوعي العام ويضعف أداؤها وتتخلى تدريجياً عن التزاماتها بإزاء المجتمع الذي بدوره اعتاد المعايير الواطئة في أداء هذه المؤسسات ويترقب هذا الزعيم الاستثنائي الذي سيصلحها بسبب قوة إرادته وتوفر الرؤيه الصحيحة لديه، أو بسبب تأثير إرادته الكاريزمية الاخلاقية التي تتحول الى لحظة إلهام مؤسساتي.
هكذا يدخل المجتمع، أو معظمه على الأقل، في دورة مفرغة بخصوص اللوم والتشكي وانتظار المنقذ الذي لن يأتي.
في عراق ما بعد 2003، برزت فكرة "صمام الأمان" سريعاً في إطار الصراعات السياسية الناشئة والتنافس الانتخابي الشديد. كانت أول من استخدم المصطلح هي أحزاب الاسلام السياسي الشيعي في إشارتها للسيد علي السيستاني، الشخصية الدينية الأعلى في المؤسسة الدينية الشيعية، وإصرارها على أنها تمثل إرادته السياسية وتتبعه آرائه دائماً، وذلك في سياق اتفاق مصالحها مع ما كان يدعو اليه السيد السيستاني في السنوات الأولى بخصوص الدعوة إلى انتخابات مبكرة وكتابة دستور يشرف عليها الفائزون في هذه الانتخابات، فضلاً عن الدعم شبه الصريح الذي منحته المرجعية الشيعية لهذه الأحزاب في سباقاتها الانتخابية المبكرة.
كان هذا الدعم المرجعي أساسياً في فوز هذه الأحزاب في الانتخابات وبالتالي في قيادتها عملية كتابة الدستور ومن ثم توليها الحكم. تتراجع هذه الأحزاب عن استخدام هذا الخطاب الانقاذي أو تصمت عنه، في أوقات اختلافها غير المعلن مع المرجعية، كما في اعتراضها العملي على دعوة الرجل لها للانسحاب من قيادة البلاد بعد فشلها الفادح في هذه المهمة.
جاءت هذه الدعوة الصريحة على لسان وكيله في أثناء الاستعداد لانتخابات 2014 في خطبة له ذكر فيها أن "على الحكومة أن لا تجازف بإعطاء المواقع الوزارية أو غيرها لمن لم يقدّم خلال الفترات السابقة خدمة للشعب، بل تفسح المجال لمن تتوفر فيه المعايير السابقة فإنه من جرّب المجرّب حلّت فيه الندامة".
عُرفت هذه الدعوة اختصاراً بين الجمهور العراقي بمقولة "المجرّب لا يُجرّب" بمعنى عدم السماح للفاشلين بفرص قيادة جديدة. مثال آخر على صمت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي العراقي بخصوص تناقض خطابها الانقاذي المتعلق بالمرجعية مع ما تدعو له هذه المرجعية نفسها جاء مؤخراً في ظل إصرار هذه الأحزاب على إمرار قانون انتخابي رفضته المرجعية بوضوح.
تزداد هذه الاحزاب جرأة في استخدام هذا السلوك الانتهازي مستفيدةَ من صمت المرجعية التقليدي بخصوص توظيف اسمها في خلافات السياسة وصراعات الاحزاب.
تتبدل الأدوار الإنقاذية التي تمنحها مختلف الأحزاب الماسكة بالسلطة ومريدوها وحلفاؤها لشخصيات مؤثرة بحسب تبدل الظروف وتغير الحاجات.
بعد الانتخابات الأخيرة، في أكتوبر 2021 ونتائجها التي أثارت الكثير من الخلاف بضمنها كيفية تشكيل الحكومة في ضوئها، برزت أهمية القضاء في حسم الجدل القانوني، لتصدر عنه مجموعة قرارات بهذا الخصوص في سياق تنافس سياسي محموم وترقب شعبي عال. لأن اطرافاً سياسية استفادت من هذه القرارات في آخر المطاف وقويَّ موقفها التنافسي بإزاء أطرف آخرى، كما هو الحال في أي قرارات قضائية في قضايا ذات طابع سياسي، بدأ أسم رئيس المجلس القضاء الأعلى، السيد فائق زيدان، يبرز بين هذه الأطراف في سياق وصفه بصمام الأمان وتنويعات قريبة من هذا المعنى مثل الجدار الأخير.
تصاعدَ هذا الاستخدام الإنقاذي مع ظهور قضايا فساد بعضها كبيرة، كالقضية المعروفة إعلامياً ب"سرقة القرن" احتاجت تعاطي القضاء معها. بغض النظر عما إذا كان التعاطي القضائي مع هذه القضايا ناجحاً أم لا، لم يخل استخدام المصطلح من أطراف عديدة من نزعة انتهازية فيها طابع التملق والسعي للتقرب من زعيم لمؤسسة تزداد قوتها في الحيز العام وتأثيرها في السياسة.
لا يساعد التبجيل الشخصي ذو الطابع الإنقاذي للقائمين على إدارة المؤسسات في إصلاح هذه المؤسسات، بل ينبغي أن يوضع الذين يديرون المؤسسات في سياقهم القانوني والإداري الصحيح: موظفون عامون يؤدون مهمات محددة لخدمة الصالح العام يخضع أداؤهم للتقييم وليسوا منقذين وطنيين أو كائنات استثنائية سيتحطم البلد بدونهم.
في الخطاب الإعلامي والسياسي للأحزاب العراقية التي في السلطة وخارجها، فضلاً عن خطاب الكثير من الصحافيين والمعلقين والناشطين، يكثر التأكيد على أهمية تأسيس وإدامة وتقوية ما يُطلق عليه "دولة المؤسسات" في إشارة صحيحة إلى أن نجاح الدولة في اداء مهماتها بستند على رصانة المؤسسات وأهمية إخضاعها لرقابة دائمة بضمنها العاملون فيها، بمختلف مراتبهم فيها. لكن هذا الخطاب نادراً ما يتحول إلى واقع، إلا في أوقات الفضائح حين يجري البحث عن ضحية أو ضحايا ما للتنصل من مسؤولية الفشل المؤسساتية، ليظهر مكانه، على نحو متواصل تقريباً، الخطابُ المعاكس المتعلق بالاشخاص الاستثنائيين والمنقذين، سواء في إطار "صمام الأمان" أو غيره من التنويعات الكثيرة لهذه الفكرة الخطيرة والمضرة.
ثمة مقولة شائعة في الغرب تستخدم غالباً في إطار الحديث عن الحيز العام والمؤسسات والعاملين فيها: "كل شخص قابل للاستغناء عنه." يحتاج العراق أن يتمثل هذه المقولة من أجل تفكيك ثقافة "تيجان الرؤوس" السائدة التي كلفت البلد كثيراً على مدى العقود الخمسة الأخيرة.