الولايات المتحدة والصين

شهدت العلاقات الأميركية الروسية في أعقاب اندلاع الحرب الأوكرانية تغيرات في طبيعة العلاقة بين البلدين باعتبارهما الدولتين الأقوى عسكريا بين دول العالم كافة، لكن الصراع بينهما لم يغير من الأسبقية التي تحتل فيها الصين الصدارة بسبب تبنيها آلية لإعادة تشكيل النظام الدولي، من خلال تعزيز قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية والعسكرية.

في الألفية الثالثة استمرت توجهات الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة انطلاقا من أنها فعليا الدولة الأقوى في العالم باعتبار أن أولويات التنافس - وليس الصراع - لمصالحها يتمثل بالترتيب في الصين ثم روسيا، لكن طبيعة العلاقة معهما تبدلت بدرجة جذرية؛ من محاولة بناء أوجه للاستقرار والاحتواء النسبي إلى تأكيد أنهما أصبحتا منذ تولى الرئيس السابق دونالد ترامب تشكلان خطرا مباشرا يهدد أمن الولايات المتحدة ومكانتها الدولية، ورغم الاختلاف السياسي بين الإدارتين الحالية والمنقضية إلا أن الرئيس بايدن واصل تبنى نفس نهج سلفه فيما يخص البلدين.

عالميا تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى اقتصاديا وعسكريا، في الشق الاقتصادي تأتى الصين في المرتبة الثانية، بينما تحتل روسيا المركز الثاني عسكريا، لذلك تهتم الولايات المتحدة بمراقبة التقارب المتصاعد بين بكين وموسكو.

فيما يخص الصين التي يتناولها هذا المقال جاءت تصريحات رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال "مارك ميلي" كاشفة لجانبين، توليهما الولايات المتحدة اهتماما يعتبر ركيزة أساسية وثابتة، يتمثلان في:

  • أولا- عدم إتاحة الفرصة للصين على المدى البعيد في تحقيق تفوق عسكري على الولايات المتحدة، وقد أشار ميلي أخيرا أمام الكونجرس إلى أن الصين تسعى للتكافؤ عالميا مع الولايات المتحدة، والتفوق العسكري بحلول عام 2049، واستطرد منوها أن على واشنطن ليس فقط مواكبة الوتيرة الصينية، بل تجاوز ذلك كليا.
  • ثانيا- تأكيد التوجه الجيوستراتيجي بالعمل على عدم اضطراد التنامي في العلاقات الصينية الروسية، مما قد يسفر في النهاية عن تشكيل تحالف بالغ القوة، سيكون موجه ضد الولايات المتحدة، ويحذر مارك ميلي وهو المسؤول الأول عسكريا في القوات المسلحة الأميركية قائلا: "لا يريد أحد منا يأتي هذا اليوم".

تتبدى خطط تعزيز الاستراتيجية الصينية بداية بالسيطرة على محيطها الإقليمي في شرق آسيا، مع استمرار تعزيز التمدد عالميا من خلال المشاريع الاقتصادية المتنوعة، دون أن يؤدى ذلك إلى احتدام سياسي أو اقتصادي عنيف يؤثر على المصالح مع الولايات المتحدة.

لهذا تدفع الصين بقوة نحو بناء عالم متعدد الأقطاب، من خلال انتهاج دبلوماسية اقتصادية والحرص على النأي بهذه الدبلوماسية عن أي صراع مباشر مع الولايات المتحدة، وهي في ذلك تلجأ إلى القوة الناعمة في تعزيز استراتجيتها، من خلال ترسيخ مفهوم أنها قوة غير إمبريالية تحترم سيادة الدول ولا تتدخل في شؤونها.

دون أدنى مبالغة يبدو الفارق في القوة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين شاسعا، رغم أن بكين تأتى في المرتبة الثالثة عالميا بعد واشنطن وموسكو، على سبيل المثال لا الحصر يمتلك سلاح الجو الأميركي 13300 طائرة حربية، بينما تمتلك الصين 3284 طائرة، ولدى القوات البحرية الأميركية 11 حاملة طائرات، في مقابل اثنتين للصين، ومن الأرقام الدالة التي تقاس بها أيضا قوة وجاهزية القوات المسلحة في البلدين ميزانية الإنفاق العسكري؛ التي تبلغ أميركيا 762 مليار دولار في مقابل 230 مليار للصين.

اقتصاديا وطبقا للتقديرات الأولية لصندوق النقد الدولي في 2022 بلغ الناتج المحلى الإجمالي للولايات المتحدة التي تحتل المركز الأول 25,4 تريليون دولار، بينما حققت الصين التي تأتى في المركز الثاني 18.32 تريليون دولار، ولتوضيح مدى قوة التنافس بين واشنطن وبكين تأتى اليابان في المركز الثالث بإجمالي ناتج 4.3 تريليون دولار فقط، مما يوضح عمق الهوة بين فرسي الرهان في المقدمة وباقي دول العالم.

لكن الوضع الاقتصادي يختلف باستخدام مقياس "معادل القوة الشرائية"، الذي يستند إلى وضع فروق القوة الشرائية للعملة المحلية في الحسبان، وهنا تصبح الصين في المقدمة طبقا لهذا المقياس بقيمة تبلغ 30.07 تريليون دولار، بينما تأتى الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بقيمة تبلغ 25.04 تريليون دولار.

الشاهد أن الصين تتحرك اقتصاديا في إطار استراتيجية مدروسة، تتجلى معالمها في مبادرة الحزام والطريق، التي أدرجت عام 2017 في دستور الدولة، سعيا طبقا لما هو معلن رسميا "لتعزيز الاتصال الإقليمي وتحقيق مستقبل أكثر إشراقا" علما أن تخطيط المشروع يستهدف إنهاء اكتماله في عام 2049، هذا العام سيتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، وهنا يجب التنبه إلى تصريح رئيس هيئة الأركان الأميركية الذى سبق الإشارة إليه في المقال، وتقاطع محتواه الذى يحذر فيه من تفوق صيني عسكري على الولايات المتحدة في العام المستهدف لانتهاء مبادرة الحزام والطريق التي يهدد إتمامها المكانة العالمية للاقتصاد الأميركي، ربما دون تفوق عسكري من بكين.

بسبب التحديات التي تأتى من نمو الاقتصاد الصيني واتساع نفوذها الهادئ في محيطها الإقليمي، وأماكن أخرى من العالم، كانت تصريحات السياسي الأميركي العجوز هنري كسينجر في مقابلة من فترة وجيزة مع صحيفة "إلموندو" الإسبانية متأنية ومترقبة، حيث ينذر من حرب باردة جديدة مع الصين؛ ستكون أكثر خطورة من سابقتها، معللا ذلك بأن كلا من واشنطن وبكين تملكان إمكانيات اقتصادية متقاربة، ولم يكن هذا هو وضع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي من قبل؛ التي اقتصرت على البعد العسكري في ظل تسيد اقتصادي أميركي، ونوه كسينجر إلى أنه لا يصح توقع أن تتحول الصين نحو الغرب، قاصدا بالطبع بناء أساليب تعامل مبتكرة؛ في بيئة التنافس الاقتصادي وليس الصراع بين الخصمين الكبيرين، بعيدا اساليب الحرب الباردة القديمة.

الخيارات المفتوحة في علاقة البلدين تشي أن التنين الصيني لا يريد أن ينفخ ناره حتى وإن تعرض للاستفزاز كما حدث مثلا في ملف تايوان، والديناصور الأميركي لن يدب بأقدام ثقيلة وهو يحرص على الانفراد بالمقعد الإمبراطوري.. هذا هو المتوقع في المديين القريب والمتوسط على الأقل.. يعكس هذه الحالة أميركيا تحذير مارك ميلي في تصريح أخير من تصاعد لهجة الخطاب المحموم عن حرب تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة والصين، مشددا أن على الجميع اللجوء إلى الهدوء.