في مثل هذه الأيام من كل عام منذ الاجتياح الاميركي للعراق في 2003، تكثر القراءات بأثر رجعي في العراق وخارجه عن معنى قرار الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش ارسال القوات الأميركية للعراق للاطاحة بنظام صدام حسين.
في العادة تنتهي هذه القراءات بنقد الرئيس بوش والقرار الذي اتخذه وتُحمل الأثنين، الرئيس وقراره، العواقبَ السيئة الكثيرة التي نتجت عن الإطاحة العسكرية الأميركية بالنظام القمعي السابق في العراق. يتركز الكثير من النقد على أن السبب الرئيس للحرب ظهرَ خاطئاً، أي وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، وبالتالي فأن شن الحزب لم يكن قانونياً، فيما يتناول الجانب الآخر الحجة الثانية لشن الحرب وهي الحجة التي كانت أقل بروزاً في خطاب الإدارة الأميركية وقتها وجاء تبني الإدارة العلني لها في إطار ردها على المنتقدين بخصوص عدم وجود خطة لها لعراق ما بعد صدام. كانت هذه الحجة هي بناء نظام ديموقراطي في العراق يكون نموذجاً مُلهماً في المنطقة يُضعف الاغراءات المدمرة، والمتصاعدة حينها، الداعية للعنف والتطرف كأسلوب لفهم المشاكل وتحقيق الأهداف. فشل مشروع الديموقراطية بنسخته الأميركية بسبب الاستعجال وسوء التخطيط الأميركيين، خصوصاً الإصرار الأحمق على فهم العراق على أنه مجرد تجمع جغرافي خاو من القيم المشتركة، لمجاميع مكوناتية كبرى تحتاج إطاراً للتفاهم السياسي والترتيب المؤسساتي بينها كي تتعايش وتتعاون. الديموقراطية التوافقية كانت الحل لهذه المشكلة المفترضة. وبقية قصة الفشل معروفة: تحول التعاون صراعاً وسُيست المؤسسات لصالح المتصارعين ليدخل البلد نفق الدم والفوضى وصراع المكونات.
اللافت في الاسترجاع العراقي لتلك الأحداث وما حصل بعد 2003 هو بروز إحساس عام ومتشابه بالتنصل لدى النخب السياسية والمظلومية لدى معظم الناس العاديين. يتصاعد هذا الإحساس و يترسخ مع تصاعد الفشل العراقي على امتداد السنوات. القاسم المشترك في هذا الإحساس هو لوم الأميركيين على كل السوء الذي حصل في البلد بعد 2003 والتهرب من الحصة العراقية الكبيرة والحاسمة التي صنعت هذا الفشل. في كلام الكثير من الساسة العراقيين المشاركين في السلطة يكثر مثلاً لوم السفير الأميركي بول بريمر، ممثل سلطة التحالف الدولية، الذي أدار العراق، نيابةً عن الولايات المتحدة الأميركية، نحو 13 شهراً، بين مايو 2003 ويونيو 2004، على أساس التفويض الأممي الممنوح للولايات المتحدة الاميركية بحسب القرار الدولي في مايو 1483 الذي اعتبر القوات الأميركية والبريطانية قوات إحتلال وفرض عليها الالتزامات الدولية نحو العراق المرتبطة بحكومات الاحتلال. جمع بريمر بين يديه صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية واسعة وأصدر مجموعة قرارات أصبحت جزءاً من المنظومة القانونية العراقية. أصدر الرجل قرارات كثيرة تعامل معظمها مع القضايا المرتبطة بالعدالة الانتقالية، أي تفكيك التركة القمعية للنظام البعثي السابق وتهيئة السبيل للانتقال الى حكم ديموقراطي تمثيلي مستقر. كانت أغلبية القرارات صائبة وبعضها كانت خاطئة٬ خصوصاً قرار حل الجيش العراقي، لكن كانت فترة حكمه الممتدة لفترة 13 شهراً من افضل فترات عراق ما بعد 2003 لجهة البناء المؤسساتي والفرص الاقتصادية والإحساس بالأمل أعقبتها فترات انحدار يكاد يكون متواصلاً حتى الان. على مدى سنوات تالية٬ إعتاد ساسة عراقيون كثيرون لوم مشاكل البلاد وأزماتها على قرارات بريمر و"تركة الاحتلال" من دون شرح السبب الذي يمنع هؤلاء الساسة وأحزابهم من تصحيح ما يعتبرونه قرارات خاطئة وتركة سيئة على مدى 18 عاماً من حكمهم للبلد بعد بريمر!!
حكمت الولايات المتحدة الأميركية العراق كقوة احتلال مدة 14 شهراً فقط كانت سلطتها مطلقة في اثنائها. بعد ذلك، منذ صيف 2004 عندما تسلمت حكومة عراقية مؤقتة برئاسة أياد علاوي الحكم في البلد، بدأت سلطتها تتراجع تدريجياً لصالح حكومات عراقية متتابعة الى ان اصبح القرار السياسي والأمني عراقياً بالكامل بعد انسحاب القوات الاميركية من المدن لتمكث في معسكرات خارجها في يونيو 2009، بعد ان استطاع العراق، بمساعدة عسكرية أميركية وبريطانية، هزيمة تنظيم القاعدة والميليشيات ليتحقق الاستقرار الأمني المنشود أخيراً. احتفلت الحكومة العراقية حينها٬ بزعامة السيد نوري المالكي، بهذا الانسحاب واعتبرت يوم الانتهاء منه في 30 يونيو عيداً رسمياً واعطته كعطلة وسمته "يوم السيادة." بعدها بعامين ونصف٬ في نهاية 2011، انسحبت القوات الأميركية من البلد ليصبح العراق واقعاً تحت حكم قواه الحزبية ونظامه السياسي بشكل كامل. لكن فشل الساسة العراقيين في ادارة شؤون البلاد كان واضحاً ومهيمناً حيث سوء الخدمات والفساد المستشري وانتشار البطالة والصراع الدائم على السلطة واستنفار أشباح الطائفية وظهور الميليشيات من جديد. لم تكن أميركا او أي قوة خارجية سبب هذه المآسي وتواصلها وإنما الأحزاب العراقية الحاكمة. عندما سقطت الموصل بيد تنظيم داعش الإرهابي في 2014 واحتل ثلث البلد بعد خمسة أعوام من احتفال العراق بيوم السيادة وثلاثة أعوام من الانسحاب الكامل للقوات الأميركية، لام المالكي، ومعه كثيرون من ساسة السلطة وأحزابها، أميركا على هذه النتيجة واتهموها بالتقصير والمؤامرة. في ظهور اعلامي له يستذكر أحداث تلك الأيام، اتهم المالكي الرئيس الاميركي الأسبق باراك أوباما لأنه لم يعطه بضع طائرات كي يقصف تنظيم داعش ويمنعه من التقدم واحتلال اراض عراقية!! يهرب الرجل كعادته من الحقائق الواضحة والراسخة نحو تفسيرات جانبية غريبة توفر له فرص التنصل من المسؤولية ولوم الآخرين على المصائب، وليس هو نفسه. غَفل الرجل عن أنه كان تحت إمرته جيش عراقي من أكثر من مليون رجل أنفقت عليه الدولة عشرات المليارات من الدولارات ومسلح بدبابات ومدرعات ومدافع اميركية حديثة، لكن معظم هذا الجيش انهار وفَرّ من الموصل تاركاً الكثير من هذا السلاح الأميركي لتنظيم داعش الذي استخدمه ليوسع رقعة سيطرته في العراق وسورية. حدث كل هذا تحت قيادته التي انتشر في ظلها الفساد والمحسوبية والسياسات الطائفية لتقود البلد إلى كارثة سقوط الموصل.
على المستوى الشعبي، ينتشر ايضاً حس شبيه بالتنصل من المسؤولية خلاصته أن "الشعب" مغلوب على أمره وان الأحزاب وأميركا هما سبب المصائب. تنتشر بين العراقيين مقولة يرددونها عند تشكيهم من سوء الأوضاع الذي أصبح مزمناً "طيح الله حظك أميركا." معنى العبارة هو أن أميركا هي الملامة على هذا السوء لأنها هي التي جلبت هذه الأحزاب لسدة الحكم. واقع الحال هو ان هذه الاحزاب وصلت للحكم بتصويت الناس لها بانتخابات مبكرة في 2005 أصرت عليها المرجعية الشيعية في حينها بالضد من الرغبة الأميركية والدولية. تكرر انتخاب الناس لهذه الاحزاب المهيمنة حالياً في جولات انتخابية تالية على مدى السنوات. حتى مع التراجع التدريجي في الدعم الشعبي لهذه الأحزاب فيما بعد، كان هناك ما يكفي من مصوتين لها يجعلها تبقى في الحكم، خصوصاً مع تغلغل هذه الأحزاب في مؤسسات الدولة وتسخيرها مواردها لصالح إعادة انتخابها.
وحدها حركة احتجاجات تشرين في 2019 التي وضعت بشجاعة اللوم حيث ينبغي أن يوضع: الأحزاب السياسية الحاكمة، وسحبت الدعم الشعبي منها عبر تعرية سلوك هذه الأحزاب القمعي بإزاء المحتجين ورفضها تالياً إجراء إصلاحات جدية في منظومة الحكم. حركة الاحتجاجات هذه هي التي أيقظت المجتمع من سبات التنصل وراحة الهروب من المسؤولية ووضعته بمواجهة واجباته بإزاء المتسببين الحقيقيين بمآسيه الكثيرة. درس تشرين المهم هو ان العراقيين هم الذين صنعوا الكارثة في بلادهم وأن عليهم هم، لا غيرهم، اصلاحها وإنقاذ بلدهم من من حافة الانهيار النهائي.