أزمة مالية جديدة عصفت بعدة بنوك أميركية وأوروبية ودفعت الحكومات والبنوك المركزية للتدخل لحماية المودعين وتفادي حدوث أزمة مالية جديدة، ولكن هل يمكن القول إنها عابرة أم أنها عميقة وتنذر بأزمة أعمق؟
أول البنوك المنهارة كان بنك (سليكون فالي) الأميركي الذي يقدم قروضا لشركات التكنولوجيا المبتدئة والصغيرة، تبعه بنك (سيغناتور) الأميركي الذي يتعامل مع الشركات عموما، وأخذ يتعامل أخيرا بالعملة الرقمية غير الآمنة، (كريبتو كَرَنسي)، وكلا البنكين انهارا دون أن تتدخل الجهات الرسمية أو البنوك الأخرى لإنقاذهما، باستثناء التطمينات التي قدمت للمودعين، ممن لديهم مبالغ لا تتجاوز الربع مليون دولار، ما يعني أن وضع البنكين الإداري والمالي غير قابل للاستمرار.
ويمكن تفهم الصعوبات التي واجهها البنكان المذكوران، فالشركات المبتدئة دائما تتعثر وتواجه صعوبات مالية لأنها تعمل في بيئة جديدة مليئة بالمصاعب، وقد يكون التنافس فيها محتدما مع شركات أكبر وأقدر، وكذلك لأن خبرتها ليست كافية كي تتمكن دائما من تحقيق الأرباح، خصوصا وأنها تقْدِم على مخاطرات يكون فيها هامش النجاح غير مضمون. لكن ماذا عن بنك (كريديت سويس) العريق الذي تأسس عام 1856 والذي كان سينهار لولا خطة الإنقاذ التي دبرها له البنك المركزي السويسري، بدعم من الحكومة السويسرية والتي تضمنت الاندماج مع البنك المنافس له، وهو البنك السويسري المتحد (يو بي أس)؟ وماذا عن بنك الجمهورية الأولى (فيرست ريبوبليك)، الذي واجه هو الآخر ضغوطا بيعية وسحوبات مالية من قبل المودعين؟
لا شك أن هناك أزمة عالمية في بداياتها، وهي متسببة عن رفع أسعار الفائدة، الذي لجأت إليه البنوك المركزية في معظم الدول الصناعية، من أجل كبح معدل التضخم العالمي، الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة. لكن قدرة البنوك المركزية على كبح التضخم تبدو محدودة حتى الآن، فالإنفاق، بشقيه الاستهلاكي والاستثماري متواصل، خصوصا النوع الأول، كما أن أجور العمال مازالت مرتفعة، وفي تصاعد مستمر بسبب تزايد التوظيف، إذن، الأزمة الحالية هي من نوع جديد، فهل يا ترى، تصلح المعالجات التقليدية لمواجهتها؟
ارتفاع معدل التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة، الناتج هو الآخر عن الحرب الروسية الأوكرانية، هو المحرك الأساس للأزمة المالية الحالية، لكنه ليس السبب الوحيد، فهناك تقصير وفساد وعدم كفاءة في إدارة البنوك المنهارة، أو التي تواجه صعوبات مالية.
بنك (كريديت سويس) مثلا متورط في غسيل أموال، وقد كُشفت العديد من الفضائح المالية المتعلقة بالبنك خلال السنوات الماضية، إذ خسر أموالا طائلة في عامي 2021 و2022، أي قبل اندلاع أزمة الطاقة العالمية، وقد شهد البنك في العام الماضي أسوأ أداءٍ مالي له منذ الأزمة المالية لعام 2008، إذ خسر 7.5 مليار دولار. وكان قد أعلن للمساهمين والمودعين بأنه لن يحقق أرباحا حتى عام 2024. ولهذا السبب أقدم المودعون على سحب أموالهم خشية أن يتدهور وضعه أكثر في المستقبل.
وقد تجدد قلق المساهمين والمودعين عندما أعلن (كريديت سويس) بأن هناك خللا في الشفافية، وأن هناك "ضعفا جوهريا في آلية صياغة وكشف البيانات المصرفية"! أي أن البيانات الحقيقية كانت تُحجب عن المعنيين بها، وهم المساهمون والمودعون والأسواق بشكل عام. هذا الاعتراف بغياب الشفافية في عمل البنك، والذي اضطر إليه بسبب تدني أدائه، زاد من قلق المساهمين والمودعين والرأي العام ودفع كثيرين لسحب أموالهم.
وقد أعلن البنك الوطني السعودي أنه لن يساهم مجددا في إنقاذ (كريديت سويس)، الذي كان عليه أن يرفع من كفاءته الإدارية، ويهتم لمصالح المستثمرين والمودعين ويتخلص من العناصر الفاسدة، أو المغامِرة، في طواقمه الإدارية.
ويسجل للبنك الوطني السعودي هذا الإدراك المبكر لما ستؤول إليه أوضاع (كريديت سويس)، فقد حفظ أمواله عندما امتنع عن المساهمة في إنقاذه، ومثل هذا الإدراك لم يتوفر حتى للبنك المركزي السويسري، الذي أعلن الأسبوع الماضي بأنه سيقدم 54 مليار دولار كخط ائتمان للبنك، لكنه عدل عن هذه الخطة لاحقا وأقنع بنك (يو بي أس) بأن يشتريه، مقابل ضمانات.
وفي النهاية، بيع (كريديت سويس) بأقل من 40 بالمئة من قيمته الفعلية، إذ كانت قيمته يوم الجمعة الماضي في سوق الأسهم 8 مليارات دولار، (بينما قيمته الدفترية 45 مليار دولار)، لكنه بيع بسعر 3.2 مليار دولار لمنافسه، بنك (يو بي أس)، بينما حصل المساهمون، الذين لم يستشاروا في هذه الصفقة، على سهم واحد في (يو بي أس) مقابل كل 22.48 سهم يملكونه في (كريديت سويس).
صفقة اندماج بنك (كريديت سويس) مع بنك (يو بي أس)، التي رتبها البنك الوطني السويسري، بالتعاون مع الحكومة السويسرية، أنقذت المودعين والموظفين وزبائن البنك واستثماراته. الحكومة السويسرية قدمت ضمانات بحجم 9.68 مليار دولار في حال حصول أي إخفاق مستقبلي ناتج عن هذا الاندماج، بينما قدم البنك الوطني السويسري (وهو البنك المركزي) تسهيلا ماليا بحجم 110 مليارات دولار. تبدو الصفقة متقنة ورصينة، وهي كذلك دون شك، لكن إدارة البنك الجديد، وهو بنك عملاق بكل المقاييس، أمامها مَهَمة ليست سهلة، وهي اتخاذ إجراءاتٍ حازمةً لرفع الكفاءة في الطاقم الإداري الذي ورثته من البنك السابق، وإعادة النظر في الاستثمارات والإجراءات التي اتخذها (كريديت سويس)، وفي خلاف ذلك، فإن المشكلة التي عانى منها (كريديت سويس) قد تنتقل إلى بنك (يو بي أس)، رغم أن هذا مستبعد، لأن (يو بي أس)، وهو أكبر بنك خاص في العالم، قد برهن على كفاءة عالية خلال السنوات الأخيرة، وتمكن من تجاوز الأزمة التي عصفت به سابقا.
من المرجح أن البنك المركزي السويسري والحكومة السويسرية، إنما عقدا هذه الصفقة مع بنك (يو بي أس)، بهدف تفادي وقوع أزمةٍ مالية أكبر، إذا ما انهار هذا البنك الكبير، وكذلك لإنقاذ الاقتصاد السويسري، وسمعة البنوك السويسرية عموما في العالم، والتي عرفت منذ زمن بعيد بالكفاءة الإدارية والملاءة المالية، وأن انهيار بنك كبير مثل (كريديت سويس) سوف يزعزع الثقة العالمية بالنظام المصرفي السويسري. وتعادل أصول البنك الجديد (المتولد من اندماج البنكين) ضعف الناتج المحلي الإجمالي للدولة السويسرية حسب تقديرات مجلة الإيكونوميست.
البنوك جميعا تعتمد في نشاطاتها المالية على ثقة المودعين والمستثمرين في كفاءتها الإدارية، فمعظم الأموال التي بحوزتها ليست لها، وإن شكك المودعون أو المستثمرون بكفاءة الإدارة، وهذا يحصل في العادة عندما تبرز إشارات على تدني أداء البنك، سواء عبر الإعلان المباشر، من خلال التصريحات أو البيانات المصرفية، أو من خلال تدني مردودات الأسهم، أو انهيار أو خسارة الشركات المدينة للبنك، فإنهم حينئذ يقْدِمون على سحب أموالهم خشية خسارتها، بينما يسحب المستثمرون استثماراتهم وينقلونها إلى مجالات أخرى أكثر ربحا. وعندما يقْدِم معظم المودعين على سحب أموالهم، فإن أيَّ بنك، مهما بلغ احتياطيه المالي، سوف يتعرض للانهيار، لأن عمله قائم على استخدام أموال المودعين في نشاطاته المصرفية.
فعندما أصيب المودعون في بنك (فيرست ريبوبليك) بالهلع، نتيجة الصعوبات التي يمر بها البنك، أقدموا على سحب أموالهم، وكاد البنك أن ينهار، لولا قيام 11 بنكا كبيرا بتقديم ضمانات للمودعين بأن أموالهم مأمونة، الأمر الذي خفف من الهلع وأوقف سحب الأموال. الثقة التي منحتها البنوك الأحد عشر لبنك (فيرست ريبوبليك)، مكَّنته من الاستمرار في العمل، لكنها لم تأتِ كفضل من تلك البنوك لـ(فيرست ريبوبليك)، وإنما لخوفها مما يحصل للأسواق في حال انهياره، وكذلك لثقتها العالية بكفاءة إدارته وإمكانية تحقيقه أرباحا في المستقبل.
أما بنك (سيليكون فالي)، فلم يحظَ بمثل هذه الرعاية، سواء الحكومية أو المصرفية. السلطات الأميركية أرادت أن ترتب له بيعا، لكنها لم تفلح، وفي النهاية، آثرت أن تعالج الموضوع علاجا جذريا، عبر الإتيان ببرنامج إقراض جديد، يقدم بموجبه البنك الفيدرالي الأمريكي قروضا للبنوك التي تواجه صعوبات مالية، مقابل أن تقدم تلك البنوك المتعثرة، أصولا مالية كضمانات لهذه القروض. في عام 2008، دفعت الإدارة الأمريكية أموالا للبنوك المتعثرة، وقد لاقى ذلك الإجراء معارضة من القطاع المصرفي وكذلك من الشعب بشكل عام، باعتبار أن أموال دافعي الضرائب يجب ألا تُستخدَم لإسعاف البنوك الخاصة المتعثرة، خصوصا تلك التي تعثرت بسبب سوء الإدارة، أو الإخفاق في قراءة الأوضاع الاقتصادية. في بريطانيا تمكنت الحكومة من ترتيب بيع فرع بنك (سيليكون فالي) البريطاني، إلى بنك (أتش أس بي سي) العملاق، الذي دفع مبلغا رمزيا، قدره جنيه واحد، مقابل ضم فرع البنك البريطاني، ولم يتضمن هذا الإنقاذ إنفاق الأموال العامة.
النظام الأميركي يضمن أموال المودعين في البنوك المتعثرة، إلى ربع مليون دولار كحد أقصى، وهذا المبلغ مناسب لمعظم المودعين في بنك (سيليكون فالي)، لأنه يتعامل مع صغار الشركات ورجال الأعمال، لكن بنك (سيغناتور)، وهو أصغر حجما من (سيلكون فالي)، يتعامل مع الشركات عموما، وقد يكون ربع مليون دولار دون معدل حجم المبالغ المودعة، لكن برنامج الإقراض الجديد سيشمل حتى المبالغ التي تتجاوز ربع مليون دولار، ما يطمئن الأسواق والمودعين بأن الأزمة الجديدة ما زالت تحت السيطرة.
لاشك أن انهيار بنك (سيليكون فالي) سيؤثر على مستقبل شركات التكنولوجيا الصغيرة، خصوصا المبتدئة منها، التي قد لا تحصل على القروض، بالسهولة التي كانت تحصل عليها سابقا من (سيليكون فالي)، وإلى جانب ذلك فإن مجرد انهيار بنك كهذا، كان قد لعب دورا في تسهيل عمل الشركات العاملة في حقل التكنولوجيا لأربعين عاما، سوف يلحِق أضرارا في هذا القطاع، إضافة إلى أنه يزعزع الثقة في القطاع المصرفي. وفي الوقت الذي كان فيه بإمكان مجلس الاحتياطي الفدرالي أن ينقذ البنوك المتعثرة، فإن مثل هذا الإنقاذ سيكون على حساب دافعي الضرائب أولا، وأنه سوف يشجع الإهمال والتساهل في تطبيق المعايير المعمول بها دوليا في البنوك، وفي النهاية، يزعزع الثقة بالاقتصاد الأمريكي، القائم أساسا على الاقتصاد الحر المجرد من التدخل الحكومي المباشر.
البنوك الكبيرة والعريقة، التي اكتسبت خبرة خلال سنين طويلة من العمل، وراكمت أموالا طائلة، توزع استثماراتها على قطاعات الاقتصاد المختلفة، ولا تركز على قطاع واحد، لأن مثل هذا التركيز يجعل نجاحها مرتبطا بنجاح هذا القطاع، فإن واجه مشاكل أو صعوبات اقتصادية طارئة، حتى وإن كانت عابرة، فإنها سوف تنعكس سلبا على أداء البنك، ومن هنا جاءت المصاعب التي واجهها بنك (سيليكون فالي)، المتخصص بإقراض شركات التكنولوجيا الصغيرة والمبتدئة. لكن البنوك الصغيرة تحاول أن تستغل الثغرات الاستثمارية التي تنشأ في قطاعات اقتصادية محددة، خصوصا الجديدة منها، كي تحقق أرباحا سريعة، فهي لا تمتلك الأموال الكافية للتوسع الاستثماري، لذلك تبقى عرضة للانهيار أو الاندماج مع البنوك الكبيرة.
بنك (فلاغستار) قرر شراء أصول بنك (سيغناتور) المنهار، بما فيها القروض، ويبدو أنه ترتيب قامت به مؤسسة التأمين الفدرالية الأمريكية (أف دي آي سي)، لأنها هي من أعلن عن الصفقة.
هناك أمر جديد وغير مألوف في الوضع الاقتصادي العالمي، وهو في الحقيقة يتحدى المنطق الاقتصادي السائد، ألا هو تزامن تصاعد النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات الأجور، مع ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع معدل التضخم! في العادة، يحدث التضخم نتيجة لارتفاع الأسعار، الناتج عادة عن توفر الأموال المتولدة من اشتداد النمو الاقتصادي والتوسع في التوظيف. فتوفر الأموال يقود دائما إلى تصاعد الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، والحلول المعتادة لكبح معدل التضخم هي رفع أسعار الفائدة لإبطاء النمو الاقتصادي، وتقليص الإنفاق الاستهلاكي، وبذلك تنخفض الأسعار بعد أن يتقلص التنافس على السلع والخدمات، وحينها يتمكن المخططون الاقتصاديون من وضع خطط قريبة من الواقع، واستشراف ما يمكن أن يحصل في المستقبل.
ومنذ العام الماضي، بدأت البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة من أجل تقليص الأموال المتاحة للإنفاق والاستثمار، ولكن دون أن يُحدِث هذا الإجراء أثرا يذكر على الإنفاق الاستهلاكي أو النمو الاقتصادي أو معدل ارتفاع الأجور، التي واصلت تصاعدها في الولايات المتحدة واليابان ودول أخرى، إذ لم يتوقف التوظيف، وبقيت معدلات البطالة منخفضة جدا في العديد من الدول الصناعية.
هناك، إذن، حاجة لاتخاذ إجراءات من نوع مختلف. قد تعيد البنوك المركزية النظر في رفع أسعار الفائدة مرة أخرى، لأن مثل هذا الإجراء سوف يقود إلى مزيد من الصعوبات المالية للبنوك، بل قد تحصل انهيارات مصرفية أخرى. إن انهيار أي بنك، خصوصا إن كان فاعلا، يخلق صعوبات للعديد من الشركات والأعمال المتعاملة معه، وللمودعين الذين وضعوا ثقتهم به، وفي الوقت نفسه يزعزع ثقة الناس جميعا بالنظام المصرفي، وقدرة الحكومات على إدارة الاقتصاد.
لقد اتخذت ستة بنوك مركزية في أمريكا وأوروبا وآسيا، وهي الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان، وبنك إنجلترة، وبنك كندا، والبنك الوطني السويسري، إجراءً استثنائيا أعلن عنه الأحد، وهو توفير السيولة النقدية بالدولار للبنوك جميعا، فيما سمي بـ (خطة العمل المنسق)، وهذا لا شك يدل على الأهمية القصوى التي أولتها الدول المعنية، وهي أكبر وأهم الاقتصادات الغربية، لخطورة الأزمة الحالية، والحزم الذي ستواجهها به، كي لا تتوسع وتحدِث خللا في النظام المالي العالمي.
البنوك المركزية في الدول الصناعية مؤسسات تابعة للدولة، لكنها مستقلة في قراراتها عن الحكومات، فهي تتخذ القرارات التي تنمِّي الاقتصاد وتحافظ على رصانة الوضع المالي والنقدي، لذلك فإن الحكومات تهيئ الظروف المناسبة لها، كي تدير النظام النقدي والمالي بكفاءة، وتتفق معها على إجراءات معينة، لكنها لا تُملي عليها شروطا أو تصدر لها أوامر، بل تتفاوض معها وتقدم لها خططها المستقبلية وتتوصل إلى اتفاقات معها، من شأنها أن تصلِح الأوضاع الاستثنائية وتعزز الثقة بالاقتصاد.
من المرجح أن تتريث البنوك المركزية، خصوصا الاحتياطي الفدرالي الأميركي، في رفع أسعار الفائدة، وتفضل التعايش مع معدل التضخم المرتفع حاليا، لفترة من الزمن، حتى يحصل كساد طبيعي، غير مفتعل، وهذا كفيل بتقليص الإنفاق وإبطاء الارتفاع في معدل الأجور، الأمر الذي سيدفع بالأسعار إلى الانخفاض لتبدأ بعدها دورة اقتصادية جديدة.