ذهبَ الذين يُعاش في أكنافهم فبقيتُ في خِلْفٍ كجلد الأجربِ (لُبَيْد)
حجم الألم الناتج عن الفقد وحده الملاذ المفوّض بأن ينطق باسم الحكمة كتفويضٍ من جناب الحقيقة.
ولهذا كانت الوصيّة، المستعارة من مستودع السلف، هي كلمة الحقّ، التي تستطيع أن تبدعنا، بإعادة هيكلة جوهرنا، بحيث نتمكّن من بعث أنفسنا من أنفسنا، بالعمل على تغيير ما بأنفسنا، لا تغيير ما بعالمنا، المهيمن خارجنا، لنحقق حلم التحرير، باستثمار هذا الإرث الروحي الثريّ، إذا ما قورن بالإرث في صيغته الحرفية كثروة مادية، برهنت التجربة كم هي هبةٌ خطرة، بل لعنةٌ، حطّمت حياة الأخلاف، بدل أن تكون ترياقاً لمداواة نزيف الأخلاف، كما هو الحال مع مفعول الإرث المترجم في بُعد القيمة الأخلاقية، كما جاد علينا نموذج الأب في أحجية سيرته المجيدة، وليس لنا إلّا أن نحسن قراءتها، كي نحقق خلاصاً في وجودنا.
فما يهوّن علقم الفقد هو الاجتهاد في تفكيك بُنية الطلسم في الوصيّة، لاستطلاع بُعْد الدنس، الذي يسكن كل نفع دنيويّ، مما يلوّث الوصية، المبثوثة في حرف الثروة، في صيغتها النفعية، فتموت الروح في الأخلاف، بدل أن تُحيي فيهم التوق لتعاطي العمل، لتحقيق حلم ما نسمّيه في أدبياتنا نجاحاً، نريده لأخلافنا، لكي يكون لهم هو المقياس، فيعزّيهم في فقدهم لنا كأسلاف، بدل أن يلهيهم عن اكتشاف الحقيقة التي تسكنهم، في حمّى هوسهم بشئون الثروة التي تلقّوها هبة مجّان، حقّ لأمثالنا أن يتغنّوا بالإمتنان للعناية الإلهية، التي اصطفتنا بالإرث الذي يجلب في حرفه القصاص.
فليت ثروة الباطل، التي ننالها من السلف، على سبيل الإرث، تجيرنا من لعنتها عندما تتبخّر في واقعنا، ولكنها تترك وراءها لعنة اسمها تزوير الروح.
وعندما نفقد، كأخلاف ورثة الروح، فإننا نفقد حجر الحكمة في كل ما متّ ويمتّ بصلة للسعادة، فلا تبقى جدوى من وجودٍ لا نرتجي فيه سعادة.
هذا الإرث هو الجدير بأن نحاجج به أهل الباطل، لا بثروات الباطل، ولا حتى بالأمجاد الناجمة عن الانتماء إلى سلالات الزعامة، التي ورثها الأب عن جدّه موسى أوغالّا، الذي تولّى زعامة سلطنة «آزجر» في القرن التاسع عشر، وخاض بجيوش سلطنته الحروب ضدّ فرنسا الاستعمارية في وسط جنوب قارّتنا الصحراوية الباسلة، في سبيل صون حرمة تعويذتنا الأبديّة: الحرية!
فالزعامة سلطة، والسلطة صيت، وليست قيمة. وإدمان أفيون الواجب وحده البطولة التي تعترف لنا بها الحقيقة، لتستنزلها تاجاً على رؤوسنا، لتكون لنا شهادة ميلاد.
هذه الشهادة بالميلاد هي ما توّج به الأبّ رؤوسنا، لتكون لنا شعاراً لا في السيماء، ولكن بصمةً عميقةً في الروح.
وما يسري في الوجدان هو رأسمال وجودنا، وهو ما لا نستحي أن نفاخر به الأقوام في طريق سيرورتنا، ليكون لنا زاداً نحمله في وجداننا، لا غنيمةً في مؤهّلاتنا، لأنه الدرس الذي لم يخذلنا في تجربتنا. فأن نفقد الأبوّة في وجودنا، فإننا نفقد السقف الذي كان لنا سماءً تظلل حضورنا.
أمّا يوم بلغني نبأ غياب الأمّ، فلم يكن للإنسان في موقفي إلّا أن يستشعر الأرض تميد تحت قدميه، ليسقط في الهاوية؛ لأن الإحساس بوجود الأمّ، ضربٌ من أمان. أمانٌ يضمن لنا الإحساس بوجود يابسةٍ تحت الأقدام، بل ضمان بوجود ترس يجير من شبح الموت، وغياب الأمّ المفاجيء خرقٌ للحجاب، انهيارٌ للجدار، ومواجهة سافرة مع بعبع الأزمان؛ لأن الأب إذا كان في المعادلة طيفاً، فإن الأمّ هي الواقع المحسوس، الذي نستطيع أن نعوّل عليه في مبدأ محفوف بالأوهام دوماً، ليتحوّل ضحيّة أوهام، كما الحال مع وجودنا، فلا نحتمي بسطوة الأب في حربنا مع باطل الأباطيل، ولكننا نستجير بتلابيب الأمّ، لأنها هي، لا سواها، الملاذ الذي يحقق النجاة، برغم يقيننا بهشاشة قارب النجاة.
بل ربما كان سرّ السطوة في هذه الهشاشة بالذّات. وسوف يهيمن سوء الفهم طويلاً قبل أن نكتشف أن هذه الهشاشة مجرد حجاب لإخفاء قوة أعظم مفعولاً تستوطن الروح وهي الحبّ. حبّ الأمومة هو ما نستغيث به بالسليقة، وغيابها هو غياب هذا الحبّ، ليتحوّل كل منّا فارساً أعزل من أي سلاح، ما أن يفقد وصاية الأمّ، المفوّضة من الطبيعة بحماية النوع من الانقراض، وعمل المستحيل، بما في ذلك التضحية بالنفس، في سبيل قطع دابر الموت من واقع الحياة. وغيابها إبطالٌ لمفعول هذا الفرمان السحري، وإذنٌ بإتاحة الفرصة لهيمنة مارد العدم.
لهذا السبب كان فَقْد الأمّ، في شرائع الأمم، بلاء بلا ترياق. وهو ما يعني أن الميتة الحقيقية ليست ميتة الحرف، ولكنها في مصرع الحبّ الناجم عن غياب الأمّ، غياب أي أمّ، ليقين خفيّ في كلّ منّا بأن حضور الموت في واقعنا، رهين غياب تعويذة اسمها الحبّ، الذي لا وجود له بغياب الأمّ، بدليل أنها المخلوق الوحيد، الأكثر حرصاً على وجودنا قيد الوجود.
فالأمّ، بهذا المنطق، قربانٌ مطلق. واغترابها من عالمنا تيتُّمٌ كينونيّ، لا مجرّد تيتّم أموميّ. ومن الطبيعي أن تستقطع منّا الأنفاس، عند رحيلها، لتغتنم منّا أنبل ما فينا، كما قُدّر لشخصي أن يجرّب يوم بلغني نبأ غيابها المفاجئ، ربيع 2013، أثناء حضوري في محطّة اغترابي السادسة من مجموع المنافي الكثيرة: (إيبيريا)، التي كان لي شرف عبورها، منذ هجرت مكرهاً فردوساً كان لي مسقط رأس هو صحرائي الكبرى في 1958. لأفقد، بهذه الهجرة، أُمّ الأمومة، ليقيني بحقيقتها كمسقط رأس التكوين، كما كشفت لي حمّى الطلب في العقود التالية، كأنّ أُمّ الأمّهات هذه أبت إلّا أن تكافئني على تضحياتي، التي لم يكن فيها بلاء الفَقْد سوى كلمة سرّ في مفهوم الطلسم. وهو كَشفٌ لم يكن ليتحقق لو لم تسخّر لي أمّ الأمومة شقيقاً في الدمّ، تنتدبه في حياتي للروح خلّاً، ليكون لي في سفر وجودي الموحش عزاءً، وهو: فنايت الكوني، الذي فُجعتُ فيه فجأة أيضا في2018 ، ليكون بذلك مسك الختام في ملحمة حق لي أن أخلع في حقّها لقب: «منازل الفقد»! لأن انسحاب هذا الحكيم الحميم من معراج اغترابي، كان سحباً لآخر رصيدٍ في مستودع جَلَادي، طوال هذه السلفة الوقتيّة الماكرة، المستقطعة من عمر الأبدية، لتوهمنا أننا نحيا أيضاً إلى الأبد، تيمُّناً بناموس الأبديّة، ولا نكتشف أن المهلة، المدعوّة في معجمنا عمراً، ليست صكّاً بصلاحية أن نعمّر، ولكنها مجرّد وصفة طبيّة لإبطال مفعول اليأس، الناجم عن الإحساس بباطل الأباطيل، لتقويم عود الأمل فينا، قبل حلول الأجل، وذلك ليقين الدهاة، الذين وضعوا حجر أساس اللغة، أن الإنسان لن يفلح في خلق أيّ شيء ذي قيمة، بل لن يجد في نفسه الحيلة كي يعيش، إن لم يعش بروح المُعمِّر، الخالد في دنياه أبداً، عملاً بالوصيّة، الخبيئة كدسيسة في مفهوم مفردة متواضعة، هي: «العُمر»! ودهاة الزمن الضائع لا يسنّون هذا المفهوم في اللغة، لكي يهوّنوا علينا فجيعة، هي ورم يسري في الفقد، ولكن لكي يوحوا لنا أن العمر حقّاً تعمير، تعمير لا في بُعده الحرفيّ، المترجم في حرف الإعمار، ولكن في بُعده كديمومة حضور، كدوام سيرورة في روح صاحب الكيان، فلا يُفقَد بانقضاء مهلة بين المهد واللحد، ولكن العمر يُفقد حقّاً في اليوم الذي نفقد فيه أنفسنا، بأن نُميت الضمير فينا، فنتنكّر للحقيقة التي تسكننا.
ولكن.. متى نتنكّر للحقيقة التي تسكننا؟
نتنكّر للحقيقة التي تسكننا عندما نكابر، فلا نكفّر عن الآثام التي نقترفها في حقّ أنفسنا، وفي حقّ الأغيار من بني جنسنا. نتنكّر للحقيقة التي تسكننا عندما لا نغتفر للأغيار خطاياهم في حقّنا. نتنكّر للحقيقة التي تسكننا عندما لا نعمل ما من شأنه أن يُحيي الحبّ في قلوبنا، لنجود بالحبّ على كل محيطنا، حتى إذا أقبل الأجل ليقبض أرواحنا، لم يجد فينا روحاً، لأن روحنا نزفناها كلّها، لكي تكون في حياة الناس وصيّة، تُنيب عنّا، في واقعٍ يغيب فيه ما اعتدنا أن نسمّيه عمراً، لأن العمر آنذاك لا يعود عمراً، ولكنه ينقلب خلوداً. هذه هي شهادة البراءة، التي نستطيع أن نحاجج بها قاضي القضاة، بتقديمها كأوراق اعتماد، لدى بلاط هذا الوصيّ على محكمة الأبديّة.