أصدر البيت الأبيض في مطلع مارس الجاري، الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني في أحدث نسخها، وضمّنها بندا سمّاه الركيزة الخامسة، تنص على "صياغة شراكات دولية سعيا لتحقيق الأهداف المشتركة"، فماذا عساها تكون؟

في لمحة عن الركائز الأربعة الأولى، يتبين أنها تتناول تباعا (الدفاع عن البنية التحتية الحرجة)، وتشمل كل مرافق استمرارية وجودة الحياة والتنمية والتنافسية وخدماتها المساندة، و(خلخلة وتفكيك الأطراف الفاعلة المهددة) داخليا وخارجيا، يليها (تشكيل قوى السوق للدفع بعاملي الأمن والتكيف) التجاري والاقتصادي، و(الاستثمار في مستقبل يقاوم بمرونة) وتنافسية تضمن التفوق.

بالعودة إلى الركيزة الخامسة، يذكر مطلع الوصف لدوافع السعي نحو تحقيقها أن (الولايات المتحدة تسعى لعالم يُتوقع فيه من الدول سلوكا مسؤولا في الفضاء السيبراني ويكافئ عليه، والسلوك غير المسؤول فيه عازل ومكلف).

أمريكا تاريخيا هي مهد الإنترنت والمجال المزمن لتجربة وإنفاذ تطبيقاته وأعراضها المصاحبة والجانبية، ولكن استنفارها الجديد لحشد الجبهة الوطنية والتحالفات الدولية من أجل ميثاق شرف ما كانت لتسعى إليه لو لم تعجل به التطورات الداخلية القابلة للفوضى عبر الذكاء الاصطناعي، والغزو الخارجي لتفضيلات وعي النشء عبر تطبيق تك توك واختراقات نوعية لمتسللين تمكنوا حتى من اختراق بعض نواحي البنتاغون الرقمية.

الهدف الأول تحت الركيزة الخامسة، أو ركيزة الأحلاف يدعو إلى بناء تحالفات للتصدي المضاد لتهديدات بيئة العمل الرقمية الخاصة بالولايات المتحدة، وسيكون هناك معترك على زيارات وأنشطة على النطاقات المحلية والإقليمية حول العالم، بين وفود أمريكية تسوغ مبررات المع والضد الرقميين وثوابها وعقابها، وبين وفود لا-غربية (صينية في معظمها وروسية) لدرء المزاعم وأيضا للتفاوض على أنصبة الأسواق. فإذا احتدم الجدال الأمني-التجاري وبلغ مرحلة الاحتقان الدبلوماسي بين المعسكرين، وبأشكال متفاوتة بين كل معسكر والدول الأقل طاعة له، سيعود العالم إلى دول الفانتوم والميغ، وبنادق إم 16 وكلاشنيكوف، بعد عسكرة كل منتج رقمي وخدماته لضرب الآخر ومستخدميه.

يدعو الهدف الثاني تحت ذات الركيزة إلى (تقوية قدرات الشركاء الدوليين)، وسنشهد ورش عمل ومؤتمرات يحضرها المستخدمون المحايدون المستهدفون بالاستقطابات، وحتى غرماء المنظمين، أو محايدون مجندون، لعرض المزايا والتبعات، ومن الضروري معرفة مزايا الأمان أكثر من التشغيل والاستفادة، لأنها تحديدا المزايا المستهدفة لإبطال المزايا الأخرى، وبالتالي تكشف ما هو لازم لإبطالها لدى الخصم، وأتصور أن استراحات الاختلاط والتعارف والتشبيك في هذه الفعاليات إما ستلغى أو تخضع لرقابة متوجسة.

ويذكر الهدف الثالث (التوسع في إمكانيات الولايات المتحدة لمساعدة الحلفاء والشركاء)، ولأن هذه الإمكانيات سيتم التصريح بها من باب التسويق لفائدتها وفداحة التفريط فيها، يتوجب على من يجتمع من الآن فصاعدا مع دعاة أمريكا الرقميين أن يقوم بالبحث والتحري عما قد يفوتهم ويكون لمصلحة دولته المتنازع على ولائها الرقمي والتقني، لأن أي وفد أمريكي سيكون استنفاره مضنيا وجهده موزعا على مواضيع عديدة ومتشعبة، لن يتمكن معها من الإلمام بكافة الاحتياجات الوطنية والإقليمية، وقد يضيع تقديرها بالانتقال العاجل إلى التهديد بعواقب وعقوبات عدم الامتثال، بينما الخصم يقدم ظاهريا مصلحة الوطن والإقليم مع ضمانات أخرى ويضرب في جبهات مبتكرة وغير متوقعة، ومن الطرفان نتعلم.

الهدف الرابع يدعو إلى (بناء تحالفات لفرض المثل العالمية للسلوك المسؤول للدول)، ولولا أن الكلام عن السلوك الرقمي، لظن القارئ أن الهدف هو أحد بنود إعلان قيام الأمم المتحدة. النفس العدائي بحد ذاته في هذا الهدف سيشكل قطبين رقميين في العالم السيبراني من شأنهما التعجيل بعودة الثنائية القطبية على خارطة العالم الواقعي، والخلل في جعل هذا الهدف يسبق الهدف الخامس والأخير، والذي كان من الأولى تقديمه عليه.

ينص هذا الهدف الخامس على (تأمين سلاسل الإمداد العالمية للمعلومات والاتصالات ومنتجات وخدمات التكنولوجيا التشغيلية)، وقد تم إغفال حقيقة كون السلوك المسؤول للدول قائم على تقديرها لقوة مخزونها من الثروات الطبيعية وقدراتها اللوجستية على نقلها، والدول اللا-غربية (موقعا وسياسة) لديها من الثروات المعدنية النادرة والأبحاث المتسارعة على خواصها واستخداماتها ما يغني بالنادر عن الوفير في عالم تكنولوجي يثمن الغرام الكفؤ في تخزين وتوليد الطاقة ومعالجة البيانات أكثر بكثير من الطن المتري من مواد أقل كفاءة في الخواص.. والله تعالى مقدر الأرزاق الجيو-استراتيجية.