(مداخلة المؤلّف في ندوة المعرض الدولي للكتاب. مسقط ـ فبراير 2023)
1
الحُجّة في الفرق بين الخُلَع البائدة والخلع الخالدة درسٌ جاد به علينا عمر بن الخطّاب مبثوثاً في سؤال طرحه على وفدٍ أقبل عليه من قبيلة «زهير ابن أبي سلمى» يقول: «ماذا فعل الله بالخلع التي خلعها زعيمكم «هرم» على شاعركم «زهير ابن أبي سلمى؟» فأجابه كبيرهم: «لقد أبادها الدهر يا أمير المؤمنين»، فما كان من الحكيم عمر إلّا أن علّق: «ولكن الخلع التي خلعها شاعركم على زعيمكم فخالدةٌ لا تفنَى».
هذه رواية صاحب الأغاني التي أوردها، في أكثر من صيغة، في موسوعته، ليبرهن لنا على فضيلة القيمة في مقابل سفساف الغنيمة. فالمكافأة جزاء كلمة حقّ عملٌ مثير للسخرية، إذا قيس بالبُعد الإلهيّ الذي يسكن شهادة الحقّ. فالشاعر ابن أبي سُلمَى لم يمدح في الحكيم «هرم» شخصه، ولكنه مدح خصاله، تغنّى بأفضاله، أو ما يمكن أن نسمّيه: نصّه، نصّه الأعظم شأناً من شخصه، الذي تلعب فيه الحكمة دور البطولة، لأنها التاج على رأس كل مَن سوّلت له نفسه انتحال الكفاءة للحلول في عرش الزعامة. وبرغم عفاف الشاعر زهير وزهده في اغتنام عطايا، يعلم كم هي باطل أباطيل، إذا ما قورنت بلذّة التغنّي بالحقيقة، بيد أن شيخ القبيلة «هرم» أصرّ على الجود على الشاعر بعطاياه، مقسماً أن يهبه إمّا عبداً، أو جاريةً، أو جواداً، كلّما وقع بصره عليه؛ فكان زهير يتحاشاه لهذا السبب، ويتسلّل خفيةً، كي لا يبصره الزعيم، فيضطرّ لأن يتلقّى منه الخلع البائدة، كما يصفها الفاروق في حُكمه الحكيم، ليقينه بأنه إنّما يؤدّي واجباً بقصائد المديح في حقّ الحقيقة، وليست في حقّ الزعيم «هرم»، لأن الزعيم هنا ليس سوى الترجمان لهذه الحقيقة، ليس سوى الوسيط، أو الرسول، الحامل لهذه الثروة النفيسة، والاعتراف بها، رهين الاعتراف بحاملها الأمين.
فالزعيم، الذي أوتي حكمةً، اعترفت له بها القبائل، هو بالمنطق الإنسان البرّي، نموذج لهبة ربوبية، جديرة بأن تعامَل بمراسم النبوّة، كما الحال مع الحكماء الذين تحوّلت أضرحتهم دوراً للعبادة بعد موتهم في أمثلة يتحفنا بها التاريخ، وأغيار عُبدوا كأنصاف أرباب، أو حتى كأرباب، وهم قيد الحياة.
أمّا في منطق أشعار زهير فإن الزعيم «هرم بن سنان» نموذج يجسّد، بمآثره، الوطن، ولهذا صار جديراً بأن يتأسطر، ليتبوّأ المنزلة التي يتماهى فيها مع معبودٍ هو الوطن، ليغدو هو الوطن.
وهو تفويضٌ صريح بأن يكون الوصيّ على القيم، بعد أن استوعب، بتجربته العصيّة، معراج التضحية، التي تتواصل في سلّم السموّ، فلا يعود المريد من مداراته إلّا وقد حقّق في نفسه معجزة أن يولد مرّة ثانية: يولد الميلاد بالروح هذه المرّة، بعد أن عبر البرزخ، الذي تحرّر فيه من ميلاده بالطبيعة، فيتنزّه، يتنزّه ليتنزّل! يتنزّل ليكون ملاذاً لوطن.
فالوطن، الذي يختزله زعيم أسطوري في مقام «هرم»، هو مستودع حكمة، مادام يختزن في شخصه حزمة القيم الروحيّة، الموسومة ببصمة أبعادٍ غيبيّة، مشفوعة ببراءة البريّة، ممّا يهبها حصانة قدسيّة، المساس بها تجديفٌ في حقّ الربوبية. والزعيم لم يكن ليستحقّ شهادة الشاعر زهير إلّا بصفته خازناً لهذه الذخيرة، المؤسسة الشرعية لمفهوم الوطن في بُعده الحقيقي المنزّه عن واقعٍ حضري، ملوّث بالدَّنَس، مفروضٌ بحرف الصفقة النّفعيّة.
2
ففي رباعيّة «واو الصغرى» الجزء الأول، نحن شهود على تحوّل زعيم القبيلة بعد وفاته، مع الأعوام، إلى أسطورة، في ممارسات أبناء القبيلة، الذين ظلّوا يحومون حول ضريحه إلى أن استقام الضريح في يقينهم معبداً، مسكوناً بفقيدٍ، سيستعير بالزمن بُعد المعبود. وهي الهالة التي ستستنزف في المكان بُعداً قدسيّاً، ما لبث أن اعتمدته القبيلة يقيناً هيمن كشَرَك، وهو المقام في المكان، ليضطر دهاة القوم إلى التنصّل من أفيون الحرية، الذي تعاطوه بالترحال، ليعتنقوا ما ظلّ في يقينهم إثماً، كما الحال مع الاستقرار. استقرارٌ قاد، بحكم العادة، إلى تكوين نواة ما كوّن في ناموس الأمم مفهوم الدولة، المبثوث في حرف ما عُرف في المعجم البدئي بالواحة. وهو ما يعني أن الخصال الأخلاقية، التي أطلقنا عليها في شأن الزعيم «هرم» اسم النصّ، الجدير بأن ننعته بـ«النصّ الوجودي»، هي القياس في الحكم على مدى الاستحقاق، الذي يصنع من الإنسان الفاني، رمزاً خالداً، لم يكن لشاعرٍ ملحميّ النزعة، في مقام زهير بن أبي سلمى، إلّا أن يجود في شأنه بصنوف الإكبار، لا شغفاً بما نسمّيه مديحاً، ولكن من باب أداء الواجب، في حقّ الحقيقة، التي اختزلها هذا الإنسان الذي آلى على نفسه ألّا يتهاون في شأن لعب دور الرسول الذي وأد الفتن، وعمل على إحلال السِّلْم بين القبائل المتحاربة مراراً، حقناً لما كان في عرف الأمم قدس أقداس، وهو: الدمّ!
الوطن أبٌ صارمٌ، يلعب في حياتنا دور المربّي الذي يروّضنا بضروب الحساب لكي يروّض فينا الحبّ، والدولة سعلاةٌ لعوب تستدرجنا إلى أحضانها المميتة، لا لكي تهوّن علينا وجع الوجود، ولكن لكي تكتم فينا أنفاس الوجود.
إنه الإفراز الملفوظ من جوف بعبعٍ معادٍ للوطن، برغم أنه يتخفّى في عباءة الوطن، وهو: الدولة! ذلك الشبح الذي لم يوجد إلّا ليفترس الروح في معبود الأجيال، المدعو في مفهوم كلّ منّا: وطناً، لا لشيء إلّا لحاجتنا إلى شرَكٍ مخوّلٍ وحده بتولّي تنفيذ القوانين الوضعية، الضرورية لتحديد الحدود، في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، داخل ملعب جنّة أرضيّة هي الوطن.
والقوانين، في هذا الواقع، لم تكن لتستعير الهويّة الوضعيّة لولا حضورها في الواقع الحضري، الملوّث باقتصادياتٍ آثمة، مبرمة بموجب ما تسمّيه السومريّة تامكرّا»، أي البلية النفعيّة، المدعوّة في منطقنا اليوم بـ«الصفقة التجارية»، وكون القوانين وضعية، فهذا سيعني أنها موضوعة، موضوعة بفعل فاعل، فاعلٍ فانٍ، وليس بخالدٍ، كما هو الحال مع القوانين الطبيعية، السائدة في وطن البريّة الصحراوي، وهي بقدر ما هي وَضعٌ موضوع، فإنها تُحيل إلى طينة أخرى هي: الوضاعة. الوضاعة المستعارة من: الوضع. وهو المفهوم الذي تتبنّاه الدولة في تسيير شئون الواقع الدنيوي، فلا تفلح في تحقيق العدالة، لسببٍ بسيط هو الروح الوضعية في قوانينها. هذا في حين تعتمد الدولة البريّة الراحلة القوانين الأسمى في تسيير شئون أهلها، لأنها ليست مصنوعة، ليست موضوعة، ليست وضعيّة، ولكنها طبيعيّة. طبيعيّه بما هي فاكهة بريّة، فاكهة هجرية وليست ميلادية كما في المسيحية، وأن تكون فاكهة هجرية سيعني أنها فاكهة حرية!
والوطن الذي ينتصب الزعيم «هرم» عليه خازناً إنّما ينتمي إلى هذه الطينة القدسيّة. ولذا نال من الشاعر، المفوّض من جناب الحقيقة، باستصدار حكم القيمة، بصفته الرقيب على مسرح الظلال، التي تثقل كاهل اليابسة بشأن الخلعة الخالدة. خلعة لم يعترف بها عرّابٌ أعظم شأناً هو عمر بن الخطاب، كشهادة خلاص، إلّا ليقينه بأن الحقيقة المنَزَّلة منزّهة عن الجائزة، منزّهة عن المكافأة، لأن المكافأة بسليقتها إهانة. الخلعة مكافأة موبوءة بروح عدميّة، حتى في حال كانت شعاراً لمجد، لأن الحكمة رهان الحقيقة الذي لا يقدّر بثمن، وكل محاولة لتوسيمه بمراسم الإكبار الدنيوي هو حطٌّ من قدره الغيبيّ، وتجديفٌ في حقّ الحقّ الذي نصّبه على العالمين قياساً.
فهل تعمّد الزعيم «هرم» إهانة شاعر القبيلة «زهير ابن أبي سُلمَى»؟ ما فعله الزعيم بالطبع هو محاولة التعبير على امتنان بلغة العُرف، أي بالعطاء، ولكنه عطاءٌ يبقى مُهيناً بسبب هويّته النفعية، لأن الخُلع حُطامٌ، نسيجٌ مدنّسٌ بسَمّ خِياط، سَمٌّ هو إثمٌ، مُنتَجٌ بحرف النفع، يستزرع في العطيّة جرثومة الفناء، ولذا فهو باطل إذا قورن بشهادة الشاعر المشفوعة بماهية الباطن، ككلمة حقّ مُعلَنَة بمشيئة الحنين المحموم لأداء الواجب، ليتحوّل بموجبه البطل ضحيةً، لأن الأوصياء على الحقيقة بالطبيعة ضحايا، مادام العطاء الفاني يهدّد بإبطال مفعول الحقيقة في الهبة الإلهيّة على النحو الذي يفسّره موقف ابن أبي سُلمَى النقديّ من العطيّة، الذي عبّر عنه في اجتناب لقاء الزعيم، لكي لا يتلقّى من يديه خلعةً أخرى، هي في يقينه حَطٌّ من شأن القيمة في الشهادة، وتزويرٌ في حقّ الخلود المترجَم في المتن الذي لا يفنى، ليستودع، بهذه الفروسية الزهدية، قفص الاتّهام كل الجوائز الدنيوية التي اعتدنا أن نراهن عليها في وجودنا كبرهان على تحقيق معجزات، ذلك أن هبات الزعيم ذات قيمة فقط بمفهوم الواقع في بُعد الوقت، ولكن طبيعتها كغنيمة تتبخّر بزوال الوقت، لتستعيد هبة الشاعر سلطانها على واقع الزمن في بُعد الأبديّة، الأبدية التي لا تعترف بالنّفع، فتُحرر الهبة من هذا الإثم، لتُبقي على القيمة الروحية، التي تستعير أبعاداً رمزية منزّهة عن النزعة الوقتية، فلا خلود لأيّة هبة ذات طبيعة نفعية، وما يعترف به الخلود في الهبة هو الروح الزهدية، المنزّهة عن النفع، المعادية بطبيعتها لدين الوقتيّة، لتستعير الهبة بذلك بُعد التنزيل المعصوم وحده من بطش الزمن.
وما شاء بن الخطاب أن ينبّه له هو حقيقة قصائد الشاعر زهير، التي لم تكن لتتغنّى بأفضال «هرم» الشخص، ولكنها ترنّمت بالأسطورة التي أبدعتها روح هذا الشخص، لتكون النصّ، في واقع وطنٍ ليس ككل الأوطان، ودولته ليست دولة ككل الدول، وحكومته ليست حكومة ككل الحكومات، ولكنه وطن البريّة، المفطور على القوانين الطبيعية، وأن تكون طبيعية يعني أنها ألوهية، لأنها مشفوعة بحرية الأبعاد القصوى، وإلّا لما خاطب ربّ الأرباب الفرعون قائلاً: «أطلق شعبي ليعبدني في البريّة». لأن أرض الميعاد، في سفر الخروج، لم تكن مكاناً يحجّ إليه شعب الله المختار، ليستعيده حرفياً، ولكنها معبدٌ باسم صحراء سيناء؛ لأن الصحراء وطن الحرية. والحرية بالطبع، وحدها وطن الربّ.
فالصحراء بحر رمال، كما البحر صحراء مياه، ولكنهما قرينان في الإغواء، بدليل أننا في كليهما نموت عطشاً، ولكننا في كليهما أيضاً نُبعث روحاً؛ لأن الحرية في ناموسهما فردوسٌ مشروطٌ بغياب الماء.
فالصحراء تجربة حرية، بدليل أننا لا نهجر الصحراء لكي نقيم في الصحراء، ولكن الصحراء تدفعنا لكي نهجر الصحراء، وعندما نهجر الصحراء كمكان لا نتحرر من المكان وحسب، ولكننا نتحرر من قرينه الزمان أيضاً، ولهذا السبب المهاجر وحده لا يهرم، لأن سلطة الزمن في تجربته تبطل، بدليل أن الأشياخ في الصحراء فقط يموتون أطفالاً، لأن الطفولة هي طفولة الروح لا طفولة الجسد الفاني، مادام الرهان على خلود الروح وليس على دوام الجسد الفاني، فسليل الصحراء بوصفه العرّاب في علم الحرية، وحده صاحب الحقّ في أن يُفتي في شأن الفرق بين هبه الباطل وهبة الباطن، بين الهبة الوقتيّة والهبة الأبديّة، وأمثال زهير ابن أبي سُلمى هم مَن لقّنَ الأجيال درس هذه الحقيقة التي تُحيي، بدل درس الحرف الذي يُميت.