تبدو سياسات روسيا منذ مجيء الرئيس فلاديمير بوتن إلى السلطة قبل 24 عاما، موجهةً لتحقيق هدف واحد مهم، وهو أن على العالم أن يعترف بأن روسيا دولة عظمى، بغض النظر عن قوتها الاقتصادية وتقدمها التكنولوجي ونجاحها في إقامة علاقات مثمرة مع دول العالم الأخرى، خصوصا المجاورة لها.

 وقد وظفت روسيا الجديدة كل إمكانياتها، ومعظمها موروث من الاتحاد السوفيتي السابق، من أجل تحقيق الهدف الذي لا يمكن إنجازه بسهولة أو بالسرعة التي يرغب بها القادة، المؤمنون بحتمية وضرورة أن تلعب روسيا هذا الدور الذي رسموه لها. وآخر الإجراءات الروسية المتخذة في هذا الاتجاه هو قرار الرئيس بوتن بالانسحاب من اتفاقية (نيو ستارت) للحد من سباق التسلح النووي، المعقودة مع الولايات المتحدة عام 2011.

 وكانت روسيا الاتحادية، التي خرجت من الاتحاد السوفيتي عام 1991، بقيادة بوريس يلتسن، قد انتهجت نهجا مختلفا تماما عن روسيا الحالية التي يقودها فلاديمير بوتن. فقد اتبعت سياسةً واقعية، وحاولت أن تلعب دورا مناسبا لقدراتها وإمكانياتها، فبدأت بتحويل الاقتصاد من موجه إلى حر، وهذه ليست مَهمةً سهلة، بل تطلبت تغييرات واسعة في البنية السياسية والاجتماعية والبيروقراطية للدولة، إضافة إلى الاقتصادية.

 كما سعت روسيا يلتسن لأن تتقدم تكنولوجيا وصناعيا، كي تلحق بالعالم المعاصر، الأمر الذي يعزز من قدراتها ويعيد إليها قوتها السابقة ويجعل منها دولة مهمة عالميا مرة أخرى، خصوصا عند الاستفادة من المكاسب التي حصلت عليها من قيادتها للاتحاد السوفيتي لسبعين عاما، ومنها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، والعلاقات الدولية الواسعة، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي ساهمت في صياغتها لصالحها، والنفوذ الثقافي والاقتصادي في العديد من دول العالم، وأخيرا وليس آخرا، الترسانة النووية الكبيرة، الأولى عالميا من حيث الحجم، إذ تمتلك روسيا 6000 رأس نووي مقابل 5400 للولايات المتحدة.

 وهذا النهج الواقعي الذي سلكته روسيا منذ عام 1991 هو ما توهمت الولايات المتحدة، والدول الغربية عموما، بأنه النهج الثابت لروسيا الجديدة. لكن روسيا تغيرت كليا عام 1999 عندما عين الرئيس بوريس يلتسن، فلادمير بوتن رئيسا للوزراء ثم تنازل له عن الرئاسة في أواخر العام نفسه، قائلا إن بقاءه في أعلى هرم السلطة لم يعد ضروريا بوجود قيادة جديدة قديرة للبلاد. كان واضحا أن تنازل يلتسن لم يكن بإرادته، وإنما أجبرته قوة سياسية وعسكرية على ذلك.

 كان يلتسن مؤمنا حقيقيا بالديمقراطية والتعددية الحزبية، حتى عندما كان شيوعيا، بل إن أهم سبب لاستقالته من الحزب الشيوعي هو احتجاجه على بطء الإجراءات التي اتخذها ميخائيل غوربتشوف لدمقرطة الاتحاد السوفيتي وانفتاحه الاقتصادي، وكان ذلك بعد يومين فقط من إعادة انتخاب غوربتشوف سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي السوفيتي في يوليو تموز 1990. لكن الانفتاح الذي قاده يلتسن شابه فساد واسع، وهو أمر متوقع في عمليات التحول السياسي السريع، فانهارت العملة الروسية، وتضاءلت شعبية الرئيس وضعُفت قبضته على السلطة نتيجة للصعوبات الاقتصادية، وإدمانه على الخمور، ما دفع المؤسسة العسكرية والأمنية والسياسية الروسية للبحث عن قيادة جديدة قوية تتولى السلطة في البلاد.

 وتنص اتفاقية (نيو ستارت) على وضع حد أقصى للرؤوس النووية الموجهة لدى روسيا وأمريكا، وقد حددته الاتفاقية بـ 1550 رأسا نوويا لكليهما، وتبادل المعلومات بخصوص أسلحتهما النووية البعيدة المدى. وحتى ما تبقى من هذه الترسانة النووية، التي قلصتها الاتفاقية، من 10 آلآف رأس نووي، إلى 1550، فإنه كافٍ لتدمير الحياة على الكرة الأرضية كليا. والهدف الأهم للاتفاقية هو مراقبة تسلح البلدين والتأكد من سلامته وعدم وقوع خطأ تقني أو بشري يمكن أن يؤدي إلى كارثة نووية عالمية.

 واتخذت الدولتان سبيلا محددا لبلوغ هذا الهدف، وذلك عبر قيام لجان مشتركة من خبراء التسلح النووي من البلدين، بتفتيش القواعد العسكرية في كلا البلدين بما لا يقل عن 18 مرة في العام (مرة كل 3 أسابيع) للاطلاع عن كثب على حجم التسلح وعدد قواعد إطلاق الرؤوس النووية وتوفر الأمان المطلوب الذي يمنع وقوع حوادث نووية، كالذي حصل في مفاعل تشرنوبل، الواقع قرب مدينة بريبيات الأوكرانية عام 1986.

 كما تهدف الرقابة إلى إبقاء التسلح النووي في البلدين في حده الأدنى، وعدم اللجوء إلى زيادة هذه الترسانة، التي لا تحقق أي هدف، خصوصا وأن التسلح النووي يكلف أموالا طائلة، ويحتاج إلى إجراءات سلامة صارمة ومتواصلة. لا شك أن المستفيد من هذه الاتفاقية هما البلدان، روسيا وأمريكا، ومعهما بلدان العالم أجمع، وأن حجم الفائدة للبلدين متكافئ، فإن عرف كل منهما قدرات الآخر النووية، فلن يحتاج إلى التخمين فيما يمكن أن يخفيه الآخر عن منافسه من سلاح، بسب نقص المعلومات المتعلقة بتسلح الطرف الآخر، الأمر الذي يقود إلى سباق التسلح النووي، المكلف ماديا، والخطير سياسيا واستراتيجيا، والمعطِّل للتقدم العلمي والتقني في المجالات الأخرى.

 وأكثر ما تركِّز عليه الاتفاقية هو تقليص عدد قواعد إطلاق الرؤوس النووية الموجهة ضد الآخر، بهدف تفادي وقوع خطأ يمكن أن يؤدي إلى كارثة نووية عالمية. وقد استمرت الرقابة والتفتيش حتى عندما يسود التوتر في العلاقة بين البلدين، ولم تتوقف إلا أثناء فترة الإغلاق بسبب تفشي فيروس كوفيد 19. لكن عملية التفتيش، التي هي أهم جزء من الاتفاقية، لم تستأنف بعد انتهاء أزمة كورونا. وعندما حاول الامريكيون أن يستأنفوا العمل بها، ليبدأ في نوفمبر الماضي، انسحب الجانب الروسي منها، دون إعلان الأسباب، ولكن من الواضح أنه نتيجة لتدهور العلاقات بين البلدين بسبب الدعم الأمريكي غير المحدود لأوكرانيا.

 وكان الرئيس جو بايدن قد طالب العام الماضي بعقد اتفاقية جديدة للحد من التسلح النووي، تحل محل الاتفاقية الحالية، وأن تدخل الصين طرفا فيها، ولكن دعوته لم تلقَ أي استجابة، لا من الصين ولا من روسيا. ويسعى الرئيس بايدن إلى إخضاع التسلح الصيني النووي إلى الرقابة العلنية الدولية، خصوصا فيما يتعلق بإجراءات الأمان والسلامة، فأي خطأ نووي في أي بلد في العالم يمكن أن تكون له آثار مدمرة خارج حدوده. ويرى مراقبون أن بايدن يسعى إلى الضغط على الصين للحد من تسلحها النووي المتزايد، وغير المراقب أو المعروف دوليا.

 انسحاب روسيا الآن لا يعدو عن كونه محاولة لإبراز الغضب الروسي من الولايات المتحدة بسبب مساندتها لأوكرانيا، كجزء من الدعاية الروسية المناهضة للغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، والقول إن هذا الدعم هو سبب استمرار الحرب. اتفاقية (نيو ستارت) وضعت حدا للتسلح النووي عند الطرفين، فهل يعني الانسحاب الروسي منها قيام روسيا بإنفاق أموال طائلة على تطوير المزيد من السلاح النووي ووضع المزيد من قواعد إطلاق الرؤوس النووية، في هذا الظرف الحرج الذي يعاني فيه الجيش الروسي من نقص العتاد، ويعتمد على مساعدات من بلدان العالم الثالث كإيران وكوريا الشمالية؟

 وحسب ما ذكرته مجلة (The Diplomat) التي نقلت عن منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، قوله إن كوريا الشمالية قدمت قاذفات وصواريخ إلى روسيا للاستخدام من قبل منظمة (Wagoner) المسلحة التابعة لروسيا، والتي يُلجأ إليها في الصراعات الخارجية.  كما أشارت تقارير إلى أن كوريا الشمالية تبرعت العام الماضي بإرسال مئة ألف مقاتل للحرب في أوكرانيا نيابة عن روسيا، إضافة إلى أنها إحدى دولتين في العالم اعترفتا بمقاطعتي دونيسك ولوهانيسك الأوكرانيتين، اللتين أعلنتهما روسيا جمهوريتين تابعتين لها العام الماضي. أما الدولة الأخرى فهي سوريا!

 هل يعني الانسحاب من الاتفاقية عودة إلى سباق التسلح بين الدول الخمس التي تمتلك السلاح النووي رسميا، حسب اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، أم أن هذه الدول، مقتنعة بما لديها من سلاح نووي فتاك، يمكن أن يبيد البشرية جمعاء في حال اللجوء إليه؟ لا شك أن الانسحاب، الذي يعني فيما يعنيه عدم التواصل والتفاهم بين القوى النووية، سيكون ضارا بالأمن والسلام العالميين، حتى وإن لم يقُد إلى سباق تسلح جديد في الظروف الراهنة. القطيعة بين الدول دائما تقود إلى اللجوء إلى أعمال التجسس واتباع سياسات مناهضة لبعضها البعض، وكان العالم قد تجاوز مثل هذا السلوك في العقود الثلاثة المنصرمة إلى الانفتاح والشفافية. 

 روسيا تلمِّح باستمرار إلى احتمال استخدام السلاح النووي، سواء عبر مسؤوليها الكبار أو عبر مناصريها وإعلامها الرسمي، أو إشارتها إلى وضع أسلحتها النووية في حالة تأهب قصوى، لكن اللجوء إلى السلاح النووي هو انتحار بكل المقاييس، لأنه سيقود إلى حرب نووية لا تبقي ولا تذر، لذلك لا يتوقع أحد أنها خيار حقيقي يمكن أن تلجأ إليه أي دولة تقودها قيادة حكيمة. 

ومع حلول الذكرى السنوية الأولى على بدء الحرب في أوكرانيا، التي لم تحقق سوى الدمار والضرر والتوتر للبلدين والعالم أجمع، ومع تزايد الخطر النووي، سواء بغياب الرقابة، أو احتمال اللجوء المحدود له، صار لزاما على الدول الكبرى أن تجد حلا لهذه الأزمة قبل أن تتطور إلى حرب عالمية ثالثة.