نحن الآن في ربيع عام ألف وتسعمئة وسبعة وعشرين، والمناسبة كما كتب داوود باشا بركات رئيس تحرير صحيفة الأهرام آنذاك هي: "مبايعة الأقطار العربية مصر بالإمارة على لغتها، إذ كانت مصر صاحبة هذا المجد من قدم، فهي كعبة الضاد، وفيها حرمها وقبلتها، ثم سلمت مصر هذه الإمارة على صاحب لواء بيانها شوقي بك، وألقت إلى يمينه صولجانها، وأدارت على مفرقه معقد تاجها".
كانت مصر في هذه الأثناء تواصل نضالها من أجل استكمال مسارها التحرري، وتبني على ما أنجزته ثورتها الشعبية الكبرى في عام 1919، وتعيش أجواء الزهو الوطني بحضارتها القديمة التي عادت للحياة بقوة بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون قبل هذا التاريخ بنحو خمس سنوات، وكانت القاهرة عاصمة الفن والثقافة وقبلة المبدعين العرب يولون وجوههم شطرها سعيا وراء التحقق والحضور.
لأسبوع كامل، استمر الاحتفال بأمير الشعراء الذي نحت له خصيصا هذا اللقب قبلها بنحو ربع قرن، ووقف حافظ إبراهيم شاعر النيل بين جموع المبايعين يتلو قصيدته:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وأنشد شاعر الأرز شبلي ملاط مبايعا في قصيدة طويلة يقول فيها:
ردت على مطامحي وشبابي
ذكرى الصبا وملاعب الأحباب
وتبعه شاعر القطرين خليل مطران مبايعا في قصيدة أطول:
قبس بدا من جانب الصحراء
هل عاد عهد الوحي في سيناء
قائمة طويلة من المبدعين العرب من المحيط إلى الخليج شاركوا في أسبوع المبايعة الذي اختتمت فعالياته في منزل أحمد شوقي "كرمة بن هانئ"
كان المشهد أبلغ اعتراف بمقام شوقي بين الشعراء ومكانة مصر بين العرب
لقاء السحاب
نحن الآن في عام 1958؛ عام ميلاد الجمهورية العربية المتحدة
"مصر وسوريا"، في هذا العام أعيد العمل باحتفال عيد العلم مع تغيير موعده ليصبح 21 ديسمبر وهو تاريخ افتتاح جامعة القاهرة عام 1908، وفي هذا العام كان الاحتفاء بعميد الأدب العربي طه حسين، وفي العام التالي كان العملاق عباس العقاد ثم توفيق الحكيم في عام 1960، حتى إذا جاءت ذكرى عيد العلم عام 65 كان التكريم من نصيب قطبي الفن في الوطن العربي أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
وخلال الحفل قال الزعيم جمال عبد الناصر: لقد استطاع فن عبد الوهاب وفن أم كلثوم أن يجمع العرب من المحيط إلى الخليج، وطالت قائمة المكرمين في عيد العلم لتضم العديد من نوابغ مصر في شتى المجالات ومن بينهم الشاعر أحمد رامي، والدكتور حسين فوزي "السندباد" والدكتور محمد كامل حسن ومحمد نجيب حشاد في العلوم وغيرهم الكثير.
كانت مصر حاضرة في دوائر تحركها الثلاث العربية والإفريقية والإسلامية بقوة مبدعيها ومفكريها وعلمائها في شتى المجالات.
مضناك جفاه مرقده
نحن الآن في أحد أيام شتاء عام ألفين وسبعة ومصر تعيش أجواء تراكم ثوري تجاوزت حدوده نطاق الاحتجاج التقليدي، واتسعت ساحاته لتصل ما بين القوى السياسية المختلفة والشرائح الاجتماعية المتنوعة، في انتظار حدث كبير لا يعلم موعده غير الله، والمناسبة دعوة لأمسية فنية وثقافية من رجل الأعمال وعضو حركة كفاية آنذاك هاني عنان والحضور يتقدمهم الشاعر أحمد فؤاد نجم "سفير الفقراء" والأديب خيري شلبي" راوي المهمشين" وعدد من المثقفين والكتاب المصريين، يعرف هاني عنان ولعي بقصيدة "مضناك جفاه مرقده" التي كتبها أحمد شوقي عام 1910 وغناها محمد عبد الوهاب بعدها بنحو عقدين من الزمان، فيقرر أن نستهل الجلسة بسماع الأغنية ولكن بصوت "أنغام" وهو يقول مازحاً هذه الأغنية من "الحاجات القليلة التي اتفق أنا وصديقي سمير عمر عليها" لينساب بعدها صوت أنغام من سماعة جهاز الأسطوانات والجميع في حالة نشوة من جمال الصوت وعذوبة اللحن وجلال الكلمات.في أحد مقاطع القصيدة يقول أمير الشعراء :
ما بال العاذل يفتح لي باب السلوان وأوصده
ويقول تكاد تجن به فأقول وأوشك أعبده
مولاي وروحي في يده قد ضيعها سلمت يده
يفتح هذا المقطع بعد انتهائنا من سماع الأغنية أبوابا واسعة للنقاش عن حرية الفكر والإبداع وسطوة المتطرفين ودورهم في ملاحقة المبدعين، فيقول أحدهم ضاحكا: لو كتبت هذه القصيدة وغنيت في أيامنا هذه لوجد شوقي وعبد الوهاب بل ومن سمع الأغنية ورددها أنفسهم في السجون بتهمة ازدراء الأديان.
فيقول نجم "الذي شرفت بصداقته قبل هذا اللقاء بسنوات "ما تخافوش مصر ولادة وهتفضل شمسها طالعة".
أحب أحمد فؤاد نجم، بيرم التونسي واعتبره مثلا أعلى في الشعر والنضال من أجل حرية الوطن والمواطن، كان بيرم - التونسي الأصل المصري المولد والهوى والهوية، والذي منحه الرئيس عبد الناصر الجنسية المصرية - نموذجا فريدا ودليلا على قدرة مصر المدهشة على استيعاب المبدعين من شتى الأقطار العربية سواء الذين ولدوا في مصر من أصول غير مصرية أو الذين وفدوا إليها في سنوات الصبا والشباب وفي تلك القائمة عشرات الأسماء اللامعة من المبدعين في شتى المجالات.
ينفث خيري شلبي دخان سيجارته ويقول: مصر كانت وستبقى رغم أي ظروف تمر بها قادرة على تقديم كل ما هو جميل رغم أنف المتطرفين والإرهابيين.
كان هذا هو اللقاء الأول الذي يجمعني بالأديب الكبير خيري شلبي الذي تسلل إلى وجداني قبلها بنحو عشرين عاما بدفء حكايا الجدات من خلال رواياته المدهشة التي كان مسقط رأسي في حي "قايتباي" أو ما يعرف بصحراء المماليك بقلب القاهرة التاريخية مسرحا لوقائعها، كان خيري شلبي فخورا بما قاله عنه أديب نوبل سيد الرواية العربية نجيب محفوظ: " كيف أكتب عن القرية ولدينا خيري شلبي"، وبما كتب له في إهداء كتابه "صباح الورد: إلى خيري شلبي بعد أن تذوقتك وآمنت بك فنانا عظيما".
يمثل أحمد فؤاد نجم وخيري شلبي خطين مميزين في نسيج الإبداع المصري زاهي الألوان، وهما ينتميان لريف مصر المعطاء وبسطاء مصر المطبوعين على الصبر وتحمل الصعاب، أصحاب الفضل والعطاء في أوقات الشدة والرخاء، شأنهما شأن كثير من رموز مصر الثقافية والفنية الذين حفرت أسماؤهم بأحرف من نور في ذاكرة المصريين والعرب في العصر الحديث
والشاهد أن عبقرية مصر إلى جانب روعة الجغرافيا وعظمة التاريخ تكمن في قواها الناعمة عميقة الجذور وارفة الظلال.