1ـ وباء الـ"أيدوس" وترياق الـ"ميثوس"

النموذج البرّي وحده كان معصوماً من اقتراف الإثم، لأن إدمانه لإفيون الـ"ميثوس" أجاره من الزّلل، فلم يضطرّ ولا مرّة لاستقدام خطيئة كالثورة، لتكون في واقعه دليل خلاص، ودليلاً لإحداث تغيير، على النحو الذي ألِفناه في واقع بعبع الـ"أيدوس" الدمويّ.

فأن يقول الفيلسوف (بول ريكور) إن الأيديولوجيا ترى الواقع مقلوباً، فسيعني أن هذه السعلاة سيئة النيّة مسبقاً في علاقتها بالواقع، لأن أن تراه مقلوباً يعني أن تراه على غير طبيعته، تراه خارج حقيقته، ممّا يدفعها لأن تفعل المستحيل، لكي تُحدث فيه تعديلاً، أو ما تتوهّم أنه التعديل! وما المغامرات الطائشة، المجبول بنزيف الدمّ، التي اعتادت أن تتحف بها عالمنا، إلّا نتيجة لهذا اليقين بوجوب إحداث تعديل، وليتها أفلحت يوماً في تحقيق هذا التعديل، لأن الواقع برهن أنها لم تقم بهذه المجازفة مرةً، إلّا وتُوّجَت المحاولة، لا بمجرّد إخفاق، ولكن بفعلٍ عدميّ هو: المحو! وليته المحو البريء، ولكنه المحو في بُعده الدمويّ!

لم يوجد في تاريخ الجنس البشري إنسان، أحسن الظنّ بالخطاب الأيديولوجي، كما فعل حكيم كل الأزمنة سقراط، الذي احترف هذه التعويذة في كل نشاطه الدعويّ، فلم تخذله الأيديولوجيا وحسب، ولكنها أبت إلّا أن تستودعه الإعدام، فلم يجد مفرّاً من الاعتراف بخطيئته وهو على فراش الموت، ليدلي، في محفل تلامذته، بالشهادة الأخيرة في حقّ تجربته، لأنه خان ملاكه الحارس (دايمون)، الذي ألهمه الحكمة دوماً، وكان يوسوس له طوال الوقت بالتخلّي عن خطابه الأيدوسيّ، باللجوء إلى محفل تاسوع ربّات الفنون، اللائي يعتنقن دين الـ"ميثوس"، لأن الحقيقة بجلالة قدرها إنّما تقيم هناك. وبدل أن نحتكم إلى حجّة هذا الإمام في علاقتنا بهذا الشبح البشع، الذي يتباهى جهاراً باحتكاره لأمرٍ جلل هو الحقيقة، نتسابق للصلاة في ساحة أوثانه، حتى إذا خذلنا، كما فعل دوماً، هرعنا ننتحل له الأعذار، فلا نكتفي، ولكننا لا نتردد في أن نستسمحه الغفران!

فأن يعترف هذا البعبع برؤيته للواقع مقلوباً، سيعني أنه شاهد عيان أعمى، فإن لم يكن أعمى، فهو على الأقل يعاني من عطب في عدسة البصر، وهذا وحده برهان كافٍ على سوء نواياه إزاء هذا الواقع، وحملات التنكيل التي مارسها في حقّ عالمنا ذات مفعول لا نريد أن نعترف به، بل نصّر على اختلاق ذرائع لتبرئة ساحة طاغية يمارس في حقّنا دور الكابوس، نجاهد كي نستنزل فيه روح الملاك، وإلّا ما حاجة قدس أقداس كالإيمان بوجود ربّ أرباب في دنيانا، كي ننصّب هذا الداعية المزيّف عرّاباً يمارس دور شيخ الطريقة، الذي يدخل الدّين نفسه تحت عباءة الأدلجة؟

الجزيرة العربية وحدها ظلّت في مأمن من هذا الوباء طوال عشرات الأعوام لسببين في ظنّي هما: غياب الحاجة لوجود دعاة العنصر العرقي في واقع هو المرجع في هذا العرق، كما هو الحال مع المصابين بداء المسّ العروبي. ثمّ غياب الحاجة لدعاة العنصر الديني، لأن الجزيرة العربية هي مسقط رأس الدين، لا في بُعده الإسلامي وحسب، ولكن مسقط رأس الديانات في بُعدها التوحيدي.

هاتان الحُجّتان لعبتا دور الحصانة، التي أجارت أوطان هذه الجزيرة من غزو الوباء الأيديولوجي، برغم قيام محاولات يائسة لأدلجة اليقين الدينيّ نفسه، بدعوى الإصلاح الديني، في مرحلة مّا، في نيّة لاحتكار الحقيقة، بروح أدلجة الدين، ولكن تأثيرها ظلّ محكوماً بالواقع المحافظ، المعادي للشطط، حتى وإن أفلحت، في فترة مّا، في تحنيط الفكر الديني، بيد أنها لم تفلح في كتم أنفاس روح الدّين، الذي لم يلبث أن أستيقظ من إغفاءته، ما أن ارتفع في الواقع نداء الحاجة بوجوب إصلاح.

2 ـ حصن الجزيرة

ولكن ما يجب ملاحظته هو وجود الجزيرة في مأمن من أشرّ المؤدلجين على الإطلاق، وأعظمهم سعاراً، بل وعدوانيةً، كما الحال مع العروبيين، المنتحلين لهوية العروبة في بُعدها كعرق، برغم أنهم الفئة التي لا تنتمي لهذا العرق، بل هي متطفّلة على العرق، لتنصّب نفسها وصيّةً على العروبة، والرسول المخوّل ببعثها من غيبوبتها المزعومة، باستعادة أمجادها الغابرة. والتجربة كشفت أن نزعة تنكّر الانسان لملّته، باعتناق مسوح ملّة أخرى، ليست بدعة من إنتاج مزاج، ولكنها عُصاب نفسيّ، يفوق المازوخية، التي يستمتع فيها المريض بجلد الذات بأجناس السياط، لترتقي، أحياناً، إلى منازل خرافيّة، لا يتردّد فيها النموذج من التنصّل من كل ما متّ لهويّته بصلة، ليرتضي حضيضاً كـ المسخ هويّةً. إنه نوع من الاغتراب الروحيّ، الذي يبلغ بالمريض أبعاداً يحاول فيها أن يتحرّر من وزر كينونته، ليستعير كينونة أخرى، يتخيلها خلاصاً من كابوس وجوده الحرفيه المميت، على النحو الذي عالجه فيلسوف في مقام مخرج الروائع الإيطالي أنطونيوني في "المهنة صحفي". إنه الجنون الذي دفع أحد قادة جيوش هتلر لأن يمزّق بالسكّين الأوردة في يده، في طقس وثنيّ دمويّ، ليتطهّر بمقتضاه من جرثومة عِرْقه العبرانيّ. والمصابون بلوثة العرق العروبيّ لا يتوقّفون عند تخوم التعصّب للعنصر، ولكنهم آلوا على أنفسهم أن يمارسوا الانتقام من كل ما متّ بصلة لحقيقتهم العرقية، بالإصرار على قطع دابر الهويّة الأخرى من حرف الوجود، مستجيرين بالحجّة الأيديولوجيّة، التي تبيح تحريم استخدام لسانٍ، هو ليس مجرد خطاب، ولكنه البرهان الأخير على الكينونة، كما حدث في شال افريقيا، في حقّ مكوّن أصليّ، كل خطيئته أنه استضاف في ربوعه يوماً غرباء، بوحيٍ من تقليد قدسيّ هو "القِرَى"، ليعتنق ناموس قومٍ، أقبلوا على دياره يوماً محمّلين ببشرى الحقّ.

3 ـ الممسوسون

والمدهش هو انعدام وجود من يملك الحقّ في أن يتساءل عن مدى حاجة العروبة لأن تقبل في حرمها أُناساً مأزومين، ممسوخين، مغتربين عن حقيقتهم، لا الأخلاقية وحسب، ولكن عن حقيقتهم الوجودية أيضاً، سيّما بعد أن أثبتت التجربة مدى عمق الإساءة البالغة التي ألحقها هؤلاء بمبدأ نبيل كالعروبة، التي لعبت دور البطولة في تغذية شريان الحضارة الإنسانية بالحكمة، المشفوعة بتلك القيم، التي لا نحتاج معها لتزكية من شفيع مشبوه، لأنها هوية إذا انكمشت، أو انكفأت، في ملحمتها الكينونية، فذلك قدَرٌ في سيرة الحضارات، وليس نكبة، بل قبول حكيم بناموس قرّهُ ناموس الطبيعة، والترياق لمداواة الخلل، في القدرة على تشخيص الدّاء، بفحص الواقع بصنوف الاستجلاء، لاستثمار السلم، ثم الاستقرار، لتحقيق الإنماء. إنماءٌ كان الإصلاح في معجمه دوماً حُجّة. الإصلاح الذي نمارسه لغاية سامية في يقين كل جيل وهي: السعادة. ولكنها ليست سعادة الباطل، بل السعادة الممهورة بمكوس عصيّة، ألفناها في: أداء الواجب!

ففي عالمٍ موبوء بجرثومة النّفع، يغدو أداء الواجب تعويذة لمعالجة داء باطل الأباطيل، المجبول دوماً بدوّامة الصفقة النفعيّة الآثمة، التي تُفقد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان روح البراءة، براءة تُجلّل الواقع بوسامٍ سَامٍ، كان دوماً رأسمال الوجود، وهو: الحبّ!

في هذا المنعطف يستعير الإصلاح منزلةً أخلاقية، تسمو على حضيض الروح التجارية، لتكتسب بُعد التحرير: التحرير الذي كان دوماً قرون استشعار في كلّ تجربة تغيير.