لا تعبّر الأزمة بين مالي وبوركينا فاسو من جهة وفرنسا من جهة أخرى عن توترات ثنائية بين الدول بقدر ما تكشف تحوّلاً تاريخياً يطال كل القارة الإفريقية.
صحيح أن هذه البلدان تنتفض لأسباب وحسابات داخلية لترتيب العلاقة مع المستعمر القديم، لكن حقيقة الأمر تتعلق بتوق هذه البلدان كما بلدان القارة للخروج من حقبة الحصرية والاستقطاب في العلاقة مع العالم إلى قواعد التنوّع والاختلاف والتعدد. بالمقابل يكتشف العالم على نحو متصاعد الأهمية الجيوستراتيجية لإفريقيا.
تدقّ كل العواصم الأوروبية أبواب المنطقة. يزورها وزراء الصين والولايات المتحدة وروسيا، ويستعجل الرئيس الأميركي جو بايدن قمة أميركية إفريقية في ديسمبر الماضي لها ما بعدها.
وإذا ما كان أصحاب النفوذ الكبار يخطبون ودّ الأفارقة، فإن الأفارقة أنفسهم يكتشفون قيمة مواقع بلدانهم وثرواتها ويستنتجون أيضاً قدرات لديهم كانت محدودة سابقاً في اللعب على التناقضات والتحرّك داخل هامش بات رحباً بين واشنطن وباريس وروما وبرلين، وبات مغرياً بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
مثال مالي صارخ في القفز بحدّة وحسم من مركب فرنسا إلى مركب روسيا. نكاد نقول إن السلطة الجديدة في باماكو التي يقودها مجلس عسكري بقيادة العقيد أسيمي غويتا بعد انقلاب مايو 2021 قد "طردت" القوات الفرنسية من مالي ودفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه أن يعلن في 9 نوفمبر الماضي إنهاء مهمة قوة "برخان" في المنطقة.
بيد أن مثال بوركينا فاسو بالمقابل هو نموذج من نوع آخر لا يتّسم بالعنف والجلافة التي استخدمتها باماكو مع باريس. فالمجلس العسكري في واغادوغو، الذي سبق أن عين إبراهيم تراوري في أكتوبر رئيساً انتقالياً، ينهي في 23 يناير اتفاقا مع فرنسا كان أبرم عام 1918، ويعلن ذلك بالتوقيت المنصوص (مهلة شهر) عليه داخل "العقد"، ويوحي بأن هذا "الهجر" مناسبة لتصويب علاقات البلدين وتطويرها لا التخلي عنها.
طبعاً لمالي ظروف تاريخية مرتبطة بعلاقات عريقة كان البلد ينسجها مع الاتحاد السوفييتي في زمن الحرب الباردة. فإذا ما خرجت التظاهرات في مالي تندد بفرنسا وترحب بروسيا فذلك، على الرغم من تورط السلطة بتحريك الشارع، ينهل من مشاعر متجذّرة في الوعيّ الجمعي العام ضد المستعمر القديم يسهل تحريكها. وإذا ما تنهل سلطة بوركينا فاسو من نفس النبع موقفها الجديد حيال فرنسا، فهي تستعد لتموضع آخر ينهي حصرية العلاقة مع باريس والانفتاح على خيارات إضافية لا بديلة.
لم تعد إفريقيا تحتمل وجوداً عسكرياً استعمارياً قديماً - جديداً على أراضيها. فحتى النيجر المتمسكة بعلاقات متقدمة مع فرنسا قد لا تقبل استضافة أعداد جديدة من الجنود الفرنسيين المغادرين لبوركينا فاسو. ولبّ التناقض في علاقات فرنسا الجيدة مع النيجر برئاسة محمد بازوم هو استمرار اعتماد النيجر على السلاح الروسي منذ عقود، وذهابها إلى شراء المسيّرات من تركيا. بمعنى آخر فإن على باريس وغيرها من الحلفاء الغربيين أن تجيد التعامل مع براغماتية إفريقية تنهي حقبة وتقتحم حقبة مربكة لبلادة العقل الاستعماري القديم.
لا تبتعد الحرب في أوكرانيا عن التحولات في إفريقيا. أفصحت دول القارة في مواقفها وفي خيارات التصويت داخل الأمم المتحدة بشأن أوكرانيا أنها لم تعد منطقة نفوذ غربية وإن لم تقفز للانزلاق تحت مظلات روسيا والصين. ولا يختلف حال إفريقيا عن حال مناطق عديدة في العالم من مجموعة الـ "أوبك+" إلى مجموعة البريكس وغيرها من بلدان العالم التي اختارت وسطية وحياداً وحذراً في التعامل مع الصراع الغربي-الروسي في أوروبا. وعلى هذا فإن تحوّلات إفريقيا صارخة تتيح التنبؤ بنظام دولي آخر قد لا يكون جديداً بقدر ما سيفرض قواعد وشروطاً أخرى في العلاقات الدولية والمحاصصة داخلها.
ولا يمكن استنتاج الدينامية الإفريقية الجديدة من دون الاعتراف بأنها تأثّرت أيضاً بسياسات الصين التي اخترقت القارة من خلال القوة الناعمة والاستثمارات السخيّة على مدى العقود الأخيرة. تأثّرت أيضاَ بتجاهل الغرب حيناَ وبسوء سلوكه تارة أخرى. وتأثّرت خصوصاً باستراتيجية روسيا لتطوير علاقاتها مع دول القارة وازدهار نشاط مجموعة "فاغنر" داخلها، علماً أن المجموعة التي توصف بالخاصة هي ذراع تحظى بدعم روسي داخلي يمهد كثيراً من الظروف لإبرام اتفاقات سياسية واقتصادية وعسكرية بين موسكو ودول إفريقية. وتفضح المناورات العسكرية بين جنوب إفريقيا والصين وروسيا الشهر المقبل مستوى الاختراق الذي تحقق جنوب مناطق نفوذ الناتو.
يتدافع وزراء الدول الكبرى على رسم الخرائط الجيوستراتيجية الجديدة في إفريقيا ما يحضر القارة إلى واجهات جديدة للصراع الدولي العام. يكتشف حلف شمال الأطلسي في قمة يونيو 2022 أن القارة السمراء تقع جنوب ميدان نفوذ الناتو في العالم. ويكتشف أن أمن إفريقيا في مسائل الإرهاب والهجرة غير الشرعية وانتشار النفوذ العسكري الروسي الصيني يشكّل تحدياً مباشراً لم يكن أولوياً قبل ذلك داخل عقائد الحلف واستراتيجياته. يكتشف الناتو أيضاً الأهمية الاستراتيجية الكبرى لموريتانيا (التي دعيت لحضور تلك القمة) كشريك أساسي بإمكان الناتو أن يجعله أساسياً في إدارة الصراع بين الغرب وخصومه في إفريقيا.
تقرأ فرنسا جيداً ما استجد وكان مفاجئاً في خرائط نفوذها التاريخي في إفريقيا لا سيما لدى "مجموعة دول الساحل الخمس": مالي، بوركينا فاسو، تشاد، النيجر، موريتانيا. وتبدو باريس متلعثمة في تفسير هذا الفشل. تغرف بعض التبريرات من موقف غربي، أميركي خصوصاً، لم يقدم العون اللازم لرفد قوة "برخان" في مالي وفرقة "السيف الضالع" في بوركينا فاسو. تتحدث تبريرات أخرى عن بروباغندا روسية تحرّض الأفارقة ضد "الإمبريالية والاستعمار" وتلاعبِ "القراصنة" الروس بالإعلام الاجتماعي الإفريقي لصالح خيار روسيا.
لكن في فرنسا من يستنتج بسهولة أن روسيا جاءت تقطف ببساطة محصولاً ساهمت خطايا فرنسا في زرعه طوال عقود. ستسحب باريس قواتها من بوركينا فاسو كما فعلت قبل ذلك في مالي وإفريقيا الوسطى. لم تفهم باريس أن العالم يتغير وإفريقيا تتغير معه. والأرجح أن فرنسا نفسها لم تتغير منذ الحقبة الاستعمارية في التسويق لأبوية واستعلاء بات يرفضهما جيل إفريقيا الجديد. يأتي وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بالترياق المثالي. ينتقد فرنسا لتدخلها في شؤون بلدان إفريقيا بما يعني أن روسيا لن تفعل ذلك. هذا تماماً ما تتوق إليه دول ضاقت ذرعاً بتدخل الغرب داخل شؤون بلدان العالم.