يتصاعد في الآونة الأخيرة الحديث عن بدء نهاية هيمنة الدولار الأميركي على التعاملات المالية في النظام العالمي، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا والعقوبات الأميركية والغربية غير المسبوقة المفروضة على روسيا.
ربما يرى البعض ذلك ضمن سياق رد الفعل على استراتيجية الرئيس الديموقراطي الأميركي الحالي جو بايدن التي أعلنها قبل انتخابه وترتكز على "مواجهة صعود روسيا والصين"، وبالتالي محاولة القوى الصاعدة في العالم مواجهة سياسة القطب الأميركي الواحد في العلاقات الدولية.
وبما أنه من الصعب فصل الاقتصاد عن السياسة، فإن ذلك الرأي له وجاهته. خاصة وأن الصراع الأهم بين الشرق والغرب ليس في الحرب العسكرية في أوكرانيا فحسب، إنما جوانبه الاقتصادية لا تقل أهمية إن لم تكن أهم أحيانا. وإذا كانت روسيا هي الطرف المباشر في الصراع العسكري فإن الصين طرف أساسي في الصراع الاقتصادي، وربما يمتد ليشمل الهند وغيرها.
وليس الحديث عن محاولة إنهاء سطوة الدولار الأميركي بغرض النيل من القوة العظمى الوحيدة في العالم في إطار سعي قوى أخرى صاعدة للدفع نحو عالم متعدد الأقطاب ونظام عالمي غير أحادي القيادة فقط، إنما هناك أسباب اقتصادية عملية وراء ذلك. صحيح أن الدولار هو رمز تلك القوة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، وتعد عملتها أداة تسعير القدر الأكبر من السلع والخدمات المتداولة حول العالم ومعيار الحسم في المبادلات المالية من مدفوعات التجارة إلى الائتمان والإقراض للدول والشركات، وإنهاء تسيده يقلل من هيمنتها العالمية. لكن أغلب التحركات التي تتم على طريق التخلي عن الدولار الأميركي كمرجعية مالية في التداولات وراءها عوامل اضطرارية.
فروسيا، المحاصرة اقتصاديا، تتوسع في أن تتم التعاملات المالية والتبادلات بينها وبين شركائها التجاريين والاقتصاديين بعملتها الوطنية، الروبل، بهدف الالتفاف على محاولة عزلها عن النظام المالي العالمي. وربما تلجأ الصين إلى اعتماد التعامل بسعر صرف عملتها، اليوان، مقابل العملات المحلية لبعض شركائها التجاريين والاقتصاديين في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. من ناحية كرد فعل على عقوبات وسياسات حمائية غربية تجاه صادراتها، ومن ناحية أخرى تحسبا لتشديد أميركا وأوروبا العقوبات التي تفرضها على الصين لتشمل الجانب المالي أيضا.
لعبت العقوبات الاقتصادية كأحد أسلحة الصراعات الدولية دورا كبيرا في تراجع سطوة الدولار الأميركي عالميا. فبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الأهداف السياسية لاستخدام الولايات المتحدة سلاح العقوبات ضد مناوئيها ومنافسيها، فالنتيجة الاقتصادية لا تقتصر على الطرف المستهدف بالعقوبات وحده. وكلما توسعت أميركا في استخدام سلاح العقوبات كلما قللت، بالتبعية، مساحة هيمنة الدولار عالميا.
مع ذلك، من الصعب توقع أن تصعد أي عملة أخرى حاليا لتتمكن من إزاحة الدولار الأميركي عن عرش النظام المالي العالمي. أولا، لأن أغلب تلك الإجراءات التي تقوم بها الدول المختلفة مثل روسيا والصين وغيرها ليست سوى رد فعل على إجراءات أميركية وغربية. ويظل الشركاء التجاريون والاقتصاديون لتلك الدول بحاجة للتعامل بالدولار في علاقاتهم الأخرى غير تلك مع تلك التي تسمح لهم بالتبادل بعملتهم المحلية مقابل الروبل أو اليوان. هي إذا إجراءات مقاصة عملة وليست سعيا نحو جعل الروبل أو اليوان أو غيره عملة مشتركة، ناهيك عن عملة موحدة لكتلة اقتصادية ما تنافس الدولار عالميا.
ثانيا، تظل كل تلك الدول مضطرة للتعامل بالدولار طالما لها تعاملات مع التكتل الاقتصادي الأكبر في أميركا الشمالية وأوروبا ودول كثيرة تربط عملاتها الوطنية بالدولار الأميركي. كما أن النظم التي استقرت في تسعير أغلب المواد الخام والمنتجات في العالم على أساس الدولار الأميركي لا يتصور أن تتغير لاستبدال الدولار بعملة أخرى – على الأقل حاليا.
ولنتذكر أنه حين أطلقت دول الاتحاد الأوروبي العملة الموحدة اليورو قبل نحو ربع قرن برزت مقولات مشابهة عن أن اليورو سيزيح الدولار عن مكانته الحصرية في النظام المالي والنقدي العالمي، لكن ما حدث بعد كل تلك السنوات، أن اليورو ظل العملة الثانية في المعاملات الدولية، ولا يزيد نصيبه كثيرا عن حجم الاقتصاد الأوروبي ونسبته من الاقتصاد العالمي.
نعم، تراجع نصيب الدولار الأميركي من المعاملات المالية العالمية عما كان عليه وقت التخلي عن "قاعدة الذهب" عالميا وجعل الدولار معيار الثروة والقيمة في بداية الربع الأخير من القرن الماضي. وربما يقل نصيب الدولار الأميركي من التعاملات المالية الدولية حاليا عن ثلثي تلك المعاملات ويقترب من النصف بعدما كان يهمين على أكثر من ثلاثة أرباع التعاملات الدولية. لكن لا يوجد منافس حقيقي لسطوة الدولار سوى اليورو، العملة الموحدة الأكبر في العالم وتأتي في المرتبة الثانية عالمية وبمسافة كبيرة بينها وبين الدولار. وليس وضع اليورو قابلا للتطور أكثر.
تبقى تلك النسبة الصغيرة من التعاملات المالية العالمي لا تتم بالدولار واليورو التي تزيد وتكبر في العقود الثلاثة الأخيرة. لكنها في النهاية نتيجة اتفاقات مقاصة عملات لا ترقى إلى عملة موحدة أو حتى مشتركة. وربما كان اتفاق الأرجنتين والبرازيل قبل أيام على إطلاق عملة مشتركة (وليست موحدة، أي يظل البيزو الأرجنتيني والريال البرازيلي العملة المحلية لكل منهما) هو ثاني أهم تحدي للدولار بعد اليورو. ففي حال نجاح إطلاق عملة "الجنوب" كما تريد البرازيل تسميتها (سور باللغة البرتغالية) وانضمام بقية دول أميركا اللاتينية إليها والتخلي عن التعامل بالدولار الأميركي فسيأكل ذلك حتما قدرا كبيرا من نصيب الدولار في التعاملات العالمية. وحتى ذلك الحين، يظل الدولار الأميركي عملة القياس العالمية.