يشهد العالم تحولا وصراعا خفيا لإعادة صياغة القطبية في العلاقات الدولية، وهنا نتحدث عن الصين وروسيا من جهة وأميركا والغرب من جهة أخرى، ولهذا ثمة هواجس أميركية تبرز الى الأمام مع تنامي العلاقات بين بكين وموسكو وتعزيز حضورهما في بعض دول أميركا اللاتينية.
ولم تخفي قائد القوات العسكرية الأميركية في أميركا اللاتينية الجنرال لورا ريتشاردسون قلقها إزاء التمدد الصيني والروسي، خاصة في فنزويلا ونيكاراغوا في وقت تستمر فيه الحرب في أوكرانيا منذ عام.
نظام متعدد الاقطاب
في الوقت الذي استطاعت فيه دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية بناء مؤسسات ديموقراطية واقتصاد قوي حيث أصبح الدولار سيد العملات والعلاقات التجارية بين الكثير من دول العالم، تحاول كل من الصين وروسيا فرض نظام عالمي جديد يكون لهما دور بارز في إطاره، ولهذا عقد الرئيس الصيني شي جينبينغ اجتماعاً افتراضياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في بكين يوم 30 من ديسمبر من العام الماضي 2022، أعرب خلاله الرئيس شي عن سعادته بالاجتماع افتراضياً مع بوتين، مشيرا إلى أنه بتوجيه منه وبوتين، أصبحت شراكة التنسيق الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا في العصر الجديد أكثر نضجاً. وقد أعرب الرئيس بوتين عن رغبته في التقارب مع الصين لمواجهة ما أسماه بالضغوط الغربية غير المسبوقة، مؤكداً أحقية الدولتين في الحفاظ على مواقفهما، ومبادئهما، وطموحاتهما لبناء نظام دولي جديد، في إشارة إلى النظام متعدد الأقطاب الذي سوف يمثل نهاية للأحادية القطبية الأميركية، كما أكد بوتين أن التعاون بين موسكو وبكين من شأنه أن يدعم السلم والأمن الدوليين، وهنا يبرز سؤال هل يكتب لهذا التوجه الصيني الروسي النجاح؟ يلحظ المتابع أن الصين استطاعت بناء شبكة علاقات تجارية دولية وباتت تمتلك اقتصادا قوياً في حين أن روسيا لم تخطو خطواتها على المستوى الاقتصادي لكنها القوة العسكرية الثانية على مستوى العالم بعد أميركا، ولهذا فإن بناء حلف صيني روسي يزعج أميركا والغرب خاصة مع استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وإمكانية تبادل الأدوار بين بكين وموسكو للنفاذ إلى بعض دول أميركا اللاتينية ككوبا وفنزويلا ونيكارغوا وتمتين علاقات متشعبة معها، وبناء على تلك التوجهات زارت وفود روسية رفيعة المستوى تلك الدول في وقت ارتفعت قيمة التبادل التجاري الصيني مع دول أميركا اللاتينية من 18 مليار دولار عام 2002 إلى 450 مليار دولار خلال العام الماضي 2022 ولتسهيل نشاطها التجاري بات للصين 30 مرفأ منتشرة في جميع أنحاء أميركا اللاتينية بما فيها خمسة مرافئ تقع على جانبي المحيط الأطلسي والهادئ كما تدير وتمتلك محطة اقمار صناعية في الأرجنتين وتقدم تقاريرها للجيش الشعبي ولا تخضع لإشراف بوينس أيرس.
المستقبل
رغم إدانتها دأبت الصين على عدم إعلان موقفها الصريح من الغزو الروسي لأوكرانيا منذ عام تقريباً، وأخاف هذا الموقف أميركا مع احتمال أن يغطي الدعم الصيني أي نقص في الإمدادات العسكرية التي تحتاجها روسيا لمواصلة عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ورغم ذلك تجاهل المسؤولون الغربيون في أميركا وأوروبا توجيه تهديدات بالعقوبات إلى الصين إذا ما سعت للتعاون مع روسيا، وتجدر الإشارة بوجود تعاون عسكري بين موسكو وبكين في مجال المناورات العسكرية المشتركة، والذي شهد زيادة واضحة على مدار العامين الأخيرين، كما اكتسب دلالات جيوسياسية، ففي مايو 2022، أجرت الصين وروسيا طلعة جوية مشتركة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي التي تزامنت مع قمة قادة الحوار الرباعي الاستراتيجي المعروف أيضاً باسم "الكواد" في طوكيو، وهو منتدى للتعاون السياسي تسعى واشنطن لتحويله إلى تحالف عسكري ضد الصين، وبالتالي، فإن المناورات المشتركة لموسكو وبكين جاءت لتؤكد أن البلدين يتعاونان عسكرياً في مواجهة محاولة واشنطن تأسيس أحلاف عسكرية ضدهما، كما أجرت موسكو مناورات متعددة الأطراف بمشاركة الصين والهند خلال الفترة من 30 أغسطس، وحتى الخامس من سبتمبر من العام المضي 2022، وذلك في مؤشر على أن محاولات واشنطن لإضعاف العلاقة بين موسكو ونيودلهي لم تنجح، وفوق ذلك دعا الرئيس بوتين خلال المحادثة نظيره الصيني لزيارة روسيا خلال ربيع الجاري 2023، لتأكيد متانة العلاقة الروسية – الصينية للعالم أجمع. ويلاحظ أن البلدين عقدا لقاءات ثنائية عدة خلال عام 2022، وذلك على هامش القمم المتتالية لمنظمات تتشارك بكين وموسكو في عضويتها، ومنها منظمة شنغهاي للتعاون بسمرقند، بالإضافة إلى إجراء عدد كبير من المحادثات الهاتفية، ويلاحظ أن الهدف المعلن لبعض هذه الاجتماعات متعددة الأطراف هو تعزيز التعاون التجاري بالعملات المحلية، والتخلي عن الدولار الأميركي، وتالياً محاولة إضعاف نفوذ واشنطن الاقتصادي ويحد من قدرتها على فرض العقوبات على خصومها. وفي ظل استمرار الصراع بين أميركا من جهة ولصين وروسيا من جهة على النفوذ والاستقطاب في العالم، وحول المستقبل يبرز سؤال جوهري هل ستبقى أميركا متربعة على القطبية في إطار العلاقات الدولية أم أن العالم سيشهد نظام متعدد الأقطاب تلعب فيه بكين وموسكو دوراً قيادياً، كل ذلك مرهون بإمكانية الصين وروسيا تشبيك علاقات جديدة في كافة الاتجاهات بما فيها دول أميركا اللاتينية وستشكل نتائج الحرب في أوكرانيا ملمحا هاماً لنظام دولي جديد.