فنّ الرسائل يعاني محنة منذ استولت تقنيات المعلومة على واقع العلاقة الإنسانية باستخدام الضوء في تسفيه الوسيط الحميم، المدعو في ثقافتنا رسالةً.
وذلك بتزوير ماهيّة هذا الرسول، كوصيّ تحريري، أو تنويري، بدليل أننا نستعمل فعل «حرّر»، كلّما تعلّق الأمر بالنيّة في إطلاق سراح مارد الفكرة من قمقمه، لمنحه صلاحية تحميله وزر أمانة، حيث لعب التدوين دور البطولة في هذا التشريح، ولم نكن ندري، أننا، باحتكامنا إلى هذا التدبير في توطيد حبل التواصل، نمارس ردّةً موجعة في سلّم تطوّر هذا الإختراع، لأن التدوين كان قفزة باسلة في سيرة العمل الإرسالي، أو بالأصحّ، الرساليّ، لأن الخطاب الشفاهي كان مفتتحاً في سلّم المعراج، باعتماد المنطوق المسموع سفيراً وحيداً في التواصل عن بُعد، لتجبرنا تقنية المعلومة اليوم على الإرتداد إلى الوراء، بإدمان الهاتف وسيلة إتصال، ممّا غيّب التوثيق، بالإستسلام لإغواء نفخ أنفاس اللغو في الهواء، لنضحّي بحميمية الكلمة المزبورة في قرطاس، هو يقيناً وثيقة نستطيع أن نعوّل على مفعولها، لا جماليّاً وحسب، ولكن نفعيّاً أيضاً، ليقيننا بأن العمل الإرسالي، رساليٌ أيضاً، لأنه دقّ للمسمار في نعش العزلة، بمحاولة التمرّد على هذا الواقع، بتبادل عزلتين إثنتين، بين قطبين إثنين، بدعوى استعادة ذكرى ضاعت، في ركاب زمن ضاع دون التضحية بالحرية، المكتسبة بفضل العزلة.
وسوف نكتشف مفاجآت ستدهشنا فيما لو عدنا إلى الوراء، لاستنطاق هوية ما نسمّيه رسالةً، في صيغة بدئية تتحفنا بها لغات التكوين.
فكلمة «تيرا»، في الليبية القديمة هي جمع مفرد «تيرَوت»، الدالّة على الميلاد، أي تصوّر الانسان في مرحلة عراكه مع الواقع الحرفيّ، في سبيل نحت المفاهيم المجرّدة، لتكون الإستعارة بمثابة حصان طروادة في القبض على مدلول يصلح مفهوماً. فالرسالة، في صيغة ميلاد، تعني اعترافاً بحضور مبدأ كان معدوماً، في واقعنا الحسّي، المعترف به مسبقاً كوجود. وهو ما يعني أن الرسالة ليست مجرد ترف يتغنّى باستلام معلومة، سواء أكانت منطوقاً، أو رمزاً مجسّداً يريد أن يوحي بذكرى، أو بموقف، ولكنها كيان له استقلالية. هو حجّة بوجود كينونة حيّة تراهن على حقٍّ في البوح ببرهانها. أي أنها تلك القيمة، التي نالت شهادة ميلادها تالياً، عندما جرى الإعتراف بوصفها وصيّةً. وصيّة، وليست مجرد علامة لإحياء ذكرى، أو الإيماء بإيصال فكرة.
مفهوم الوصيّة، في وَسْمٍ بسيط هو «تيرا»، هو ما تطوّر ليستعير دلالة خطيرة، ورثناها في كلمة «تورا» العبرية، الدالّة على الرسالة في مفهوم دينيّ، استقام في «توراة». أي الوصيّة في منزلتها المقدّسة، أي الربوبية.
فالتأكيد على هذه الروح الربوبية في العمل المثالي تتحفنا به لغة التكوين في الدلالة المغتربة في كل الكتب المقدّسة. فالإنجيل أيضاً كلمة مركّبة من «إن» الدالّة في البدئية على «ذو»، و «جيل» الدالّة على «الألوهة» أي «الوصيّة الإلهيّة». أمّا في القرآن الكريم، فالإسم مستعار من فعل «إقرأ» الذي يعني في الأصل البدئي «النداء»، كلمة يقرأ = ينادي، فإذا استعملنا رديفاً لحرف القاف وهو الجيم صارت «يجرا» الدالّة على «يعقل» أو «يعي». أي أن القرآن هو رسالة العقل، أو الوعي. باعتبار «إقرأ» أو «يجرا» كلمة القداسة التي تُجير من الشرّ، ومن هاتين الكلمتين استعارت البدئية مفهوم التعويذة في «تِمَجرَوت»، لنستعيد صيغة «تيرَا» (جمع تيرَوت)، وهو ما يعني ان مفهوم التعويذة في «تيرا» التوراتية و «تمجروت» القرآنية إنما يحمل معنى التمائم أو التعاويذ أو الأحجبة الحامية من الشرور. وهو ما يعيد للأذهان الاصل الوقائي للكتب السماوية، التي كان لها الفضل في نشوء الكتب المقدسة كمفهوم، وهو ما تترجمه لنا المصرية في وصايا الهيروغليف، الدالة على الوصايا المحفوظة، أو الحافظة. والحفظ هنا بمعنى الوقاية من السوء، وهو ما يعطي الشرعية في ترجمة معنى «الأوبانيشاد» أيضا، الدال في منطوق البدئية على «الوقاية من الشرور». وهو ما يؤكّد حقيقة التمائم كمستودع لديانة الانسان في طوره الطبيعي.
ليس هذا وحسب، ولكن السنسكريتية أيضاً لم تنجُ من هذه النزعة الداهية في توليد المفاهيم الدينية من حرف الواقع الحسّي. فكلمة «سنسكريت» تعني في لسان البدايات: «العلم بكل شيء». أمّا أمّ الكتب الهندية «أوبانيشاد»، فتعني: «عدم وجود الشرّ» أو «غياب الشرّ»، كما أسلفنا. وفي المصرية القديمة، وكذلك الليبية القديمة، يرد مجموع الأحكام الإلهية في كلمة «آنهي»، ككتاب الكتب، بمعنى «المبكّر»، أي «الوصايا البدْئية»؛ كما ما زال يجري في ألسنة أحفاد هاذَين اللسانَين أمازيغ الصحراء الكبرى.
ولكن التقنية بوصفها سَمّ خياط الحداثة، ما لبثت أن أطاحت بكيان الهوية الرسالية في الرسالة، أي الوصيّة ذات البُعد التنويري، أو التحريري، في حملة تجديف في حقّ الفحوى الألوهيّة في النشاط الرسالي، في حمّى تغنّيها بالبُعْد الميّت، البُعد الإعلامي. وأن تفلح هذه الجنّية في نسف هذا المضمون التبشيري، فهذا سيعني أنها انتصرت في معركتها مع الحقيقة، فلا تعود الرسالة اليوم تحمل في ثناياها خلاصاً، ولكنها تحمل وزراً، تحمل زوراً.
فالرسالة التي قطعت شوطاً موجعاً قبل أن تستقيم في الصحيفة، أو الكتاب، انتكست عندما انتدبتها التقنية صوتيّاً. أي استودعتها العدم بالصوت، لأن الصوت نفخة هواء فانية، وليس وثيقة تبقى حجّة تتوارثها الأجيال. والدليل في دراما الإعتماد على منطق الصوت تتحفنا به سيرة إمام مؤرّخي الرومان تاتسيتوس، عندما أهمل تسطير خطاب سينيكا التاريخي، وهو ينزف، بعد أن قطع شرايين يديه ورجليه، بحجّة أنه «الخطاب الذي يجري على كل لسان»، فأضاع تاتسيتوس بذلك أقوى حكمة جرت على لسان أعظم حكماء روما القديمة، بسبب حسن ظنّ المؤرّخ بلسان العوامّ، لأُدرك كم كان صديقي الناقد والأكاديمي السويسري ريتّو زورغ محقّاً عندما نبّه مريم مراراً كي تحرص على حفظ مخطوطاتي المدوّنة يدويّاً، سيّما في زمن أدمن فيه الأدباء استعمال الجهاز الآلي في الكتابة، كأنّه يتنبّأ بحكم منظّمة الأرشفة العالمية، التي أصدرت أخيراً بياناً في شأن التوثيق، الذي يجب أن يخضع فيه التدوين لصيغة المخطوط فقط، لأن البعبع الرقمي هو ما لا يُعوّل عليه كوثيقة في التوثيق.