معظم استطلاعات الرأي في بريطانيا أظهرت أن ثلثي البريطانيين صاروا يرغبون بعودة بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، لكن الأوروبيين لن يقبلوا بهذه العودة إلا بشروط جديدة، تبدأ بوجود غالبية شعبية متماسكة مؤيدة للانضمام، وأن تكون العودة نهائية، وليست مؤقتة، تمليها الظروف الاقتصادية الآنية.

الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة "سافانتا" Savanta أخيرا، أظهر بأن 65% من البريطانيين يؤيدون العودة إلى الاتحاد الأوروبي، وأن 22% منهم يريدون العودة فورا، وأن هناك إدراكا بأن قرار الانسحاب، الذي شرَّعه استفتاء عام 2016، كان خاطئا، وأن بريطانيا تضررت كثيرا من الابتعاد عن شريكها التجاري الأكبر.

ويعزز هذا الاستطلاع التوجه العام لدى البريطانيين، الذي أظهرته استطلاعات أخرى عديدة، بأن قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي لم يكن في مصلحة بريطانيا، وهذا ما أظهره استطلاع أخير أجرته مؤسسة "يوغوف" Yougov، التي وجدت أن 56% من البريطانيين يعتقدون بأن القرار كان خاطئا، مقابل 32% يعتبرونه صحيحا، وأن 20% من الذي صوتوا لصالح المغادرة عام 2016، يعترفون الآن بأنهم ارتكبوا خطأً.

لا توجد لدى الحزبين الرئيسيين، المحافظين والعمال، خطة للعودة إلى الاتحاد في المستقبل المنظور، وهذا الموقف ينطبق أكثر على حزب المحافظين، الذي قاد عملية الانسحاب، إذ لا يوجد مؤشر على أن الحزب سيغير موقفه قريبا، رغم أن نسبةً كبيرة من أعضائه تؤيد الانضمام، ولكن بشروط.

وفي أول خطاب لزعيم حزب العمال، السير كيير ستارمر، في العام الجديد، الذي ألقاه في كلية لندن الجامعة شرقي لندن، أكد على الحاجة إلى التغيير والتجديد، وعلى ضرورة تمرير مشروع قانون (استعادة زمام المبادرة)، الذي يمنح الحكومة البريطانية السلطات التي كانت متاحة للاتحاد الأوروبي. وقد اعتبر مراقبون كثر، موقف ستارمر بأنه محاولة لاستقطاب الناخبين المؤيدين لبركسيت، خصوصا قوله إنه "يتفهم الفكرة التي دفعت الناخبين للتصويت للانسحاب من الاتحاد الأوروبي"! لكنه لم يقدم أي تفاصيل حول موقف الحزب في المفاوضات المقبلة مع الاتحاد، خصوصا المتعلقة بمراجعة اتفاقية بركسيت التي ستنتهي عام 2026.

الأحزاب البريطانية الأخرى، كالحزب القومي الأسكتلندي، الحاكم في أسكوتلندا، وحزب الديمقراطيين الأحرار المعارض، والحزب القومي الويلزي، لديها سياسة واضحة تتبنى العودة إلى الاتحاد الأوروبي. أحزاب أيرلندا الشمالية منقسمة كالعادة، فالأحزاب المؤيدة لبقاء المقاطعة ضمن المملكة المتحدة، تؤيد الانسحاب، بينما الأحزاب التي تؤيد الاتحاد مع جمهورية أيرلندا، فتؤيد العودة إلى الاتحاد الأوروبي.

مازالت هناك العديد من القضايا العالقة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وهذه القضايا تحتاج إلى مفاوضات طويلة وعسيرة، للتوصل إلى حلول ترضي الطرفين، لكن المزاج الأوروبي لم يعد يطيق الجدل البريطاني المستمر حول عضوية الاتحاد، في وقت تجاوز فيه الأوروبيون هذه القضايا، وهم الآن يفكرون بسياسات تعزز الوحدة الأوروبية، خصوصا في ظل بروز الخطر الروسي الذي يتهددها.

كانت بريطانيا تتمتع بموقع متميز في الاتحاد الأوروبي، إذ كانت عضوا كامل العضوية وله حق التصويت والاعتراض على قرارات الاتحاد، وفي الوقت نفسه، كان لديها العديد من الإعفاءات والاستثناءات من قوانين الاتحاد وسياساته، ولو بقيت عضوا، لتمكنت من التأثير في سياسة الاتحاد لصالحها، على العكس من دول أخرى، كالنرويج، الذي ليس له حق التصويت، بسبب تحفظه على بعض القوانين الأوروبية. وكانت المجموعة الأوروبية قد منحت بريطانيا هذا التميُّز في عهد حكومة تاتشر، من أجل إغرائها بالبقاء في الاتحاد، قبيل انطلاقه عام 1993.

لكن الجناح المتشدد في حزب المحافظين ظل يتعامل مع الاتحاد الأوروبي بفوقية، مشكِّكا في سياساته الرئيسية، ومحاولا فرض سياسات تتعارض مع التوجه الوحدوي للاتحاد الأوروبي. وفي النهاية، تمكن الحزب من إقناع نصف الشعب البريطاني بأن الانسحاب من أوروبا سيقود إلى الرخاء وأن الانعتاق من قوانين الاتحاد ولوائحه سوف يطلق أيدي الحكومة لاتخاذ القرارات النافعة لبريطانيا، فنجح الاستفتاء بفارق ضئيل في إخراج بريطانيا من الاتحاد كليا.

يوجد الآن 27 عضوا في الاتحاد الأوروبي، وكل عضو يمتلك حق الاعتراض على أي طلب جديد لنيل عضوية الاتحاد، بعبارة أخرى، أن الأعضاء جميعا يجب أن يوافقوا على طلب الانضمام إلى الاتحاد، وشروط هذا الانضمام. فإن تقدمت بريطانيا مجددا بطلب العودة إلى الاتحاد، وهذا محتمل في ضوء تغير الرأي العام البريطاني، فقد تكون هناك معارضة أوروبية لعودتها، خصوصا بعد الانقسام الحاد الذي أحدثه الانسحاب في المجتمع البريطاني. فرنسا مثلا، عارضت انضمام بريطانيا للمجموعة الأوروبية في الستينيات والسبعينيات، وعندما انضمت بريطانيا عام 1973، كان عدد الأعضاء 6 فقط، فكيف إذا كان العدد 27 عضوا حاليا، وقد يكون أكثر حينما تتقدم بريطانيا بطلب العضوية؟

لا تستطيع بريطانيا التقدم بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مجددا، إلا بعد إجراء استفتاء جديد، يصوت فيه الناخبون لصالح الانضمام، إذ لابد من توفر تفويض شعبي جديد، يلغي التفويض السابق لمغادرة الاتحاد. ومن غير المتوقع أن تكون العودة إلى الاتحاد الأوروبي أولوية لدى الحزبين البريطانيين الرئيسيين، فهذه القضية كانت سببا في انقسام حزب المحافظين، الذي لن يعود لمناقشتها مجددا، خصوصا وأن (بركسيت) خلَّصته من مشكلة داخلية معقدة، رغم أنها أدخلت بريطانيا في مشاكل اقتصادية وقانونية جديدة، ليس أقلَّها بقاء أيرلندا الشمالية جزءا من السوق الأوروبية، وخضوع البضائع البريطانية الداخلة إليها لتفتيش سلطات الاتحاد الأوروبي، واستمرار بريطانيا بالعمل بالقوانين الأوروبية رغم انسحابها، لأنها صارت جزءا من القوانين البريطانية على مدى 48 عاما، ما يعني أنها تحتاج لأن تعمل على تعديل القوانين الحالية كي تتمكن فعليا من الاستقلال عن أوروبا، وهذه العملية تستغرق وقتا، وقد تكون عبثية في ضوء رغبة غالبية البريطانيين في العودة إلى الاتحاد.

أما حزب العمال، فهو الآخر لا يرغب أن يعلن موقفه النهائي من العودة إلى الاتحاد الأوروبي حاليا، خصوصا وأن القضية لم تعد ملِحَّة، مع وجود الحاجة إلى إجراء استفتاء جديد، إضافة إلى وجود شريحة بين مؤيديه تعارض العودة إلى أوروبا، بسبب احتمالات تزايد الهجرة غير الشرعية إلى بريطانيا، عبر دول الاتحاد، كفرنسا، واحتمالات تدفق العمالة من أوربا الشرقية مجددا إلى بريطانيا، والتي يمكن أن تؤثر على العمالة الوطنية. لكن الحزب قد يطرحها في المستقبل إن رأى في ذلك فائدة انتخابية، وإن تأَكَّدَ من أن هناك غالبيةً كبيرة بين أنصاره تؤيد العودة إلى أوروبا.

الجميع، بمن فيهم المحافظون، الذين قادوا حملة الانسحاب، يدركون بأن بريطانيا تضررت من مغادرة الاتحاد الأوروبي، لكن المحافظين يعتقدون بإمكانية استعادة بريطانيا قوتها ونفوذها السابقين، على الأمد البعيد، إن بقيت مستقلة عن الاتحاد. تحاول حكومة ريشي سوناك حاليا التخفيف من الآثار السلبية لمغادرة الاتحاد الأوروبي، عبر زيادة التعاون مع الاتحاد في قضايا عديدة منها الهجرة وتوليد الطاقة المتجددة (في بحر الشمال) ومشاريع الأبحاث العلمية. غير أن المعضلة التي لم تجد لها حلا، ولا يبدو أن هناك حلا ممكنا لها، غير العودة إلى الاتحاد الأوروبي، هي بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي جعل المقاطعة البريطانية، فعليا، جزءا من الاتحاد الأوروبي.

ووفقا لتقديرات البنك المركزي البريطاني، الذي يدير السياسة النقدية دون تدخل من الحكومة، فإن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، قلص الاستثمارات في المملكة المتحدة بنسبة 25% خلال السنوات الخمس الماضية، بين الأعوام 2016 و2021، أي حتى قبل مغادرة بريطانيا الاتحاد في يناير عام 2021.

واستنادا إلى ما نشرته مجلة الإيكونوميست الاقتصادية، فإن دراسة لأحد مراكز البحوث، أشارت إلى أن الاقتصاد البريطاني كان يمكن أن يكون أكبر مما هو عليه الآن بنسبة 5%، لو كانت بريطانيا قد بقيت في الاتحاد الأوروبي.

لا شك أن الشعب البريطاني يرغب الآن في العودة إلى الاتحاد الأوروبي، ولا شك أيضا، أن عودة بريطانيا إلى الاتحاد سوف تعزز من قوته، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ومعنويا، لكن الحكومات الأوروبية، حسب مجلة الإيكونوميست، لن تقبل بعودتها إن لم يكن هناك تأييد سياسي واجتماعي واسع وراسخ لصالح الانضمام، بحيث أن صيحات الانسحاب لن تتكرر مستقبلا على نطاق واسع.

عودة بريطانيا المحتملة إلى الاتحاد الأوروبي، لابد أن تكون وفق شروط جديدة، تبدأ بتبني سياسات الاتحاد وقوانينه، بما في ذلك تبني اليورو، ثم الانسجام الكامل مع الهدف النهائي للاتحاد الأوروبي، ألا وهو ذوبان الدول الوطنية الحالية كليا في دولة الاتحاد الأوروبي، وتحقيق الوحدة الأوروبية المنشودة. لا يوجد حاليا تأييد شعبي واسع في بريطانيا لمثل هذا التوجه الوحدوي الأوروبي، ما يعني أن بريطانيا ستبقى خارج الاتحاد الأوروبي على الأمدين، القصير والمتوسط.