منذ ثلاثة أشهر وسعر صرف الدينار العراقي يواصل الانخفاض أمام الدولار، خلافا للعملات العالمية التي استعادت بعض قيمتها المفقودة منذ أن بدأ سعر الدولار بالانخفاض أواخر سبتمبر الماضي.

وسبب انخفاض الدينار مرتبط مباشرة بتعاملات إيرانية سرية، بتواطؤ مع الحكومات العراقية المتعاقبة، الخاضعة للنظام الإيراني، إما خوفا من ميلشياته المسلحة، أو ولاءً أيديولوجيا منها له.

تعاني إيران من عقوبات دولية منذ عام 1979، وهذه العقوبات تزداد شدة مع اشتداد تطرف النظام الإيراني وتصاعد محاولاته توسيع نفوذه عبر دعم جماعات مسلحة في دول أخرى، مجاورة، كالعراق أو بعيدة، كلبنان واليمن وسوريا.

ازدادت العقوبات اتساعا بعد عام 2018 عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، ثم اشتدت واتسعت قبل شهرين عندما فرضت دول أوروبية عقوبات إضافية إثر قمع التظاهرات التي عمّت المدن الإيرانية، احتجاجا على مقتل الشابة، مهسا أميني، على أيدي شرطة "الأخلاق". وكلما اشتدت العقوبات حاولت إيران أن تستفيد ماديا من نفوذها في العراق.

بدأ سعر الدولار بالارتفاع بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والقلق الذي أحدثته في أسواق الطاقة، وهذا الارتفاع يحصل أثناء الأزمات الدولية، إذ يلجأ الجميع، من رجال أعمال وشركات وبنوك وناس عاديين، إلى الدولار، لأنه العملة الأكثر أمانا، لارتباطه باقتصاد أقوى دولة في العالم.

أعلى سعر بلغه الدولار حسب المؤشرات العالمية، كان يومي 26 و27 سبتمبر الماضي، ثم بدأ بالانخفاض بعد اتضاح وجهة الحرب الروسية الأوكرانية، وتمكُّن أوكرانيا من صد الهجوم الروسي، وتراجع القوات الروسية أمام تقدم القوات الأوكرانية، وتكبدها 110 آلاف بين قتيل وجريح.

الدينار العراقي لم يكن مستقرا خلال العقدين المنصرمين، وقبل ذلك كان له سعران، ثابت تحدده الدولة لتعاملاتها الخارجية، ومتغير حسب العرض والطلب في السوق المحلية.

حكومة الكاظمي خفَّضت سعر الدينار بنسبة 20% عام 2020، بسبب الضائقة المالية المتسببة عن انخفاض أسعار النفط وتضخم أجهزة الدولة.

انخفاضه الحالي بدأ في أكتوبر الماضي، أي بعد تشديد العقوبات الدولية على إيران، واشتداد الرقابة الدولية على التعاملات العراقية معها.

وبعد انضمام العراق إلى نظام سويفت المصرفي عام 2017، وارتباط المصارف العراقية به مؤخرا، صار بإمكان دول العالم معرفة ما تجريه البنوك العراقية من تعاملات، فالمعلومات المالية عبر (سويفت) متاحة لكل الدول المشتركة فيه، وإيران وروسيا أقصيتا منه بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليهما.
في ديسمبر 2022، انخفض الدينار لأدنى مستوى له منذ عام 2004، إثر عمليات تحويل واسعة النطاق للدينار إلى الدولار، ما تسبب في سحب الدولار من أسواق العملة العراقية.

لا يمكن عزو انخفاض سعر الدينار إلى ارتفاع سعر الدولار، فمسار العملتين خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة متعاكس، وكان يجب أن يؤدي إلى ارتفاع سعر الدينار، كما حصل للجنيه الإسترليني واليورو.

سعر الدينار مرتبط بالدولار ابتداءً، فالنفط، وهو المادة الوحيدة التي يصدِّرها العراق إلى العالم، يسعَّر بالدولار في الأسواق العالمية، وهو يشكل 95% من صادرات العراق.

أما واردات العراق فقد ازدادت أضعافا بعد عام 2003، واتسعت لتشمل كل شيء، من مياه الشرب، المستوردة من الكويت، إلى المواد الغذائية والألبسة المستوردة من إيران وتركيا، إلى السيارات والأجهزة الكهربائية والمعدات والمكائن المستوردة من الصين واليابان والدول الصناعية الغربية.

وفي الوقت نفسه، تراجعت المنتجات المحلية، بل اختفى معظمها، إذ حلت محلها المنتجات الأجنبية، ذات الجودة العالية والأسعار المنخفضة.

وبسبب العقوبات الدولية على إيران، وتوسع نفوذها المسلح، صارت تتحكم بموارد العراق حسب احتياجاتها المتزايدة، فهي تصدِّر الكهرباء والغاز والمنتجات النفطية والمواد الغذائية ومواد البناء وباقي السلع الرئيسية إلى العراق، وتتلقى أثمانها بالدولار الأمريكي، الذي حظرت الولايات المتحدة استخدامه عليها، رغم أنها استثنت العراق لفترات محددة.

بلغت صادرات إيران المعلنة إلى العراق 11 مليار دولار عام 2021، وارتفعت صادراتها هذا العام بنسبة 21%، حسب تصريح مدير الجمارك الإيرانية، علي رضا.

ويعتقد مراقبون بأن الحجم الحقيقي للتجارة الإيرانية مع العراق هو أكثر من ضعفي المعلن، لأن الكثير من التعاملات التجارية الإيرانية سرية.

صحيفة (إيران انترناشنال) اللندنية، ذكرت في تقرير نُشر بتأريخ 26/12/2022 أن لديها معلومات من مصادر مطلعة بأن العراق يتعامل تجاريا مع إيران بالدولار الأمريكي، رغم العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.

وأضافت أن الإدارة الأمريكية لديها معلومات بأن مبالغ كبيرة بالدولار الأمريكي قد حُوِّلت من العراق إلى عدد من البلدان، بما فيها إيران، فارتفع سعر الدولار مقابل الدينار، ما أثار غضب الشعب العراقي.

معظم صادرات إيران إلى العراق مواد استهلاكية، كاللحوم والأسماك والخضراوات والفواكه والكهرباء والمنتجات النفطية والغاز، وهذه الصادرات ساهمت في إضعاف الإنتاج الوطني.
ويعتقد مراقبون بأن وكلاء إيران في العراق يقفون وراء أعمال التخريب التي تعرضت لها وسائل إنتاج صناعية وزراعية وخدمية في العراق.

وبسبب اشتداد العقوبات الدولية، ازدادت تدخلات إيران في العراق، فصار وكلاؤها يسحبون الدولار من الأسواق مقابل العملة العراقية، التي يحصلون عليها عبر الابتزاز والتهريب والممارسات الفاسدة عبر هيمنتهم على مؤسسات الدولة.

السياسي العراقي، الدكتور ليث شبر، ذكر في حديث لقناة الشرقية، أن الدولار يُنقل من العراق إلى إيران بالشاحنات! وهذا ما أكده تقرير للصحفي تميم الحسن، نشرته جريدة المدى بتأريخ 27/12/2022، الذي ذكر أن هناك أموالا تذهب إلى إيران عبر البر والجو، وأن 15 مصرفا عراقيا تتعاون مع إيران سوف تُشمَل بالعقوبات الامريكية قريبا!

والمفزع حقا هو ما ذكره الخبير المالي، سايمون واتكينز، في مقال نشره موقع (oilprice.com) المتخصص بالنفط، بتأريخ 27/12/2022، بأن العراق يبيع النفط الإيراني بأسعار مخفضة في الأسواق العالمية على أنه نفط عراقي، ويسلِّم إيراداته إلى إيران! وأن هذا النفط يذهب إلى الموانئ التي لا تتوفر فيها رقابة مشددة، كالموانئ الألبانية والبوسنية والصربية والكرواتية! وقد اعترف وزير النفط الإيراني، بيجان زنكنة، عام 2020، بأن إيران تصدِّر النفط إلى العالم، ولكن ليس باسمها!

وذكرت صحيفة إيران إنترناشنال، نقلا عن صحيفة (أوروك) العراقية، أن 4 مليارات دولار قُدِّمت لإيران أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي الأخيرة إلى طهران ضمن صفقة غامضة! لكن الغموض ينقشع كليا في ضوء ما ذكره واتكينز!

ويقول الأستاذ في جامعة "لوميير ليون 2" الفرنسية، فابريس بالانش، إن إيران لديها جماعات عراقية متنفذة، ومليشيات مسلحة منضوية تحت (الحشد الشعبي) تأتمر بأمرها، وهي تتحكم بمقدرات العراق، بينما لم يتبقَ للولايات المتحدة غير سلاح العقوبات الاقتصادية، وقوات عسكرية قوامها 2500 شخص، وأن السبب الرئيس للاهتمام الأمريكي بالعراق هو منع إيران من الاستيلاء عليه.

رئيس مركز التفكير السياسي العراقي، الدكتور إحسان الشمري، قال في حديث لقناة فرنسا 24، إن العراق صار شريان الحياة الاقتصادي لإيران، وهي بحاجة ماسة لأن تُبقيه قريبا منها.

الجماعات الموالية لإيران استنكرت قرار خفض الدينار العراقي عام 2020، لأنه ألحق بها ضررا، فهي تحصل على أموالها بالدينار، وكلما ارتفع سعره، ازدادت الأموال التي تحصل عليها.

لكنها الآن تحاول أن تلقي باللائمة على أمريكا كي تبعد اللوم عن إيران وأتباعها. لا شك أن الولايات المتحدة تراقب تطبيق العقوبات على إيران، وسوف تشمل كل دولة تتجاهلها، بعقوبات مماثلة.

والعراق يغامر بمستقبله كدولة، وبمستقبل شعبه، بمساندته لإيران، سرا، وإنْ فُرِضَت العقوبات الأمريكية، على العراق فإن من الصعب جدا رفعها، فحذارِ يا قادة العراق.

ليس في مصلحة إيران حاليا أن يُشمَل العراق بالعقوبات الامريكية، لأنه صار شريان الحياة بالنسبة لها، والمصدر الأساسي لتزويدها بالعملات الأجنبية، لذلك لجأت إلى الحصول على الدولار من السوق العراقية المفتوحة غير الخاضعة للرقابة الأمريكية والدولية.

لكن من السهل على أمريكا أن تشمل العراق بالعقوبات، وبذلك تحرم إيران من الاستفادة من التسهيلات التي تقدمها لها الحكومات العراقية المتعاقبة.

يوجد ترليونان ومئتا مليار دولار تقريبا، متداولة في العالم، نصفها متداول في الولايات المتحدة، والنصف الآخر في البلدان الأخرى. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تعرف بدقة أين توجد الأموال المتداولة نقدا خارج حدودها، والتي تشكل معظم ما يسمى في المصطلحات النقدية (M0). لذلك تجري التعاملات التجارية غير القانونية بتبادل المبالغ النقدية، لصعوبة مراقبتها. معظم البنوك العالمية لم تعد تسمح للمودعين بسحب كميات نقدية كبيرة، منعا للصفقات المشبوهة.

وكلاء إيران، السياسيون والمسلحون، اعتادوا على إطاعة أوامر ضباط الحرس الثوري، وهؤلاء ربطوا مصيرهم بالنظام الإيراني، وهم يعلمون جيدا بأن غالبية العراقيين تنبذهم، وهي تنتظر الفرصة المناسبة للتخلص منهم، لذلك تحول الصراع بينهم وبين الشعب العراقي إلى صراع وجود، فإما أن يبقى الموالون لإيران، أو يبقى العراق.

لا يتردد هؤلاء في ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل البقاء، وعندما شعروا بالخطر عامي 2019/2020، أرسلوا قناصيهم لقتل ألف شاب مسالم دون وازع أو رادع.

رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، زار إيران أواخر شهر نوفمبر، وقدم لقادتها "الشكر" لتزويدهم العراق بالكهرباء ودورهم "المساند" للعراق، فرد عليه الرئيس الإيراني، خلافا للأعراف الدبلوماسية، بتوجيه النقد العلني لسياسة العراق، مطالبا بإخراج القوات الأمريكية منه، بينما هذه القضية سيادية ولا يجرؤ في العادة أي مسؤول أجنبي أن يطرحها، لكن الإيرانيين يشعرون بأن العراق لم يعد دولة حقيقية، بل صار تحت سيطرتهم، لذلك لا يترددون في التدخل في شؤونه ونهب أمواله وتدمير اقتصاده، وحتى قصف أراضيه بحجج واهية، دون أن تقدم حكومته احتجاجا، أو شكوى إلى الأمم المتحدة، كما تفعل الدول المستقلة.

لدى العراق اتفاقية مع الولايات المتحدة، وبإمكانه أن يفعِّلها كي يعزز سيادته ويقف بوجه أي دولة تتنمر عليه، لكن معظم قادة العراق ارتضوا التبعية، لأنهم لا يفهمون معنى الدولة الوطنية ولا قراءة المواقف الدولية.

ليل العراق سيطول إن لم تحصل تطورات دولية تجبر إيران على مغادرة العراق، أو ينتفض شعب العراق ويزيح وكلاءها الجاثمين على صدره.