عنونت دورية "فورين بولسي" في عدد سبتمبر- أكتوبر 2022 غلافها بتعبير لافت ودال The Age of Uncertainty للإشارة إلى حالة انعدام اليقين التي تعكس فعليا قدرا كبيرا من الشك والريبة، وهي حالة تنسحب على الواقع ويلمسها الكافة في أرجاء العالم، بالطبع قبل صدور هذا العدد.

تبدت وضعية العالم خلال القرن الماضي حتى اليوم من خلال مخاطر تواترت في ظل حروب عسكرية كبرى وصغرى وتجاذبات سياسية وتقلبات اقتصادية حرجة ومشكلات اجتماعية، ما تلبث جميعها أن تخفت لتبدأ من جديد في تجلٍّ متصل من عدم اليقين الذي اقترن بالصعوبات والتعقيدات التي سادت وما زالت المشهد الدولي.

تغير استخدام مصطلح الحرب في العلاقات الدولية المعاصرة، لأن مفردة "الحرب" أعيد استخدامها فيما يتعلق بجوانب غير عسكرية، فاستجدت مصطلحات من قبيل الحرب الاقتصادية والحرب الثقافية.

ومع تقدم التكنولوجيا ظهرت مصطلحات جديدة كحرب المعلومات والحرب السيبرانية، لكن الحرب في جانبها العسكري كأقدم استخدام للمفردة ما زالت في أعلى سلم المخاطر على البشرية وأكثرها جسامة.

كانت الحروب فيما مضى يُمكنها أن تحسم أوضاعا كثيرة منها:

أولا: إمبراطوريات إقليمية في العالم القديم اتسعت، مثالا لها: تحرّك الإسكندر الأكبر إلى جنوب البحر المتوسط، وتمكنه تاليا من دحر الفرس وتبديد إمبراطوريتهم وطردهم خارج آسيا الصغرى، والانطلاق نحو الهند ليشكل أكبر إمبراطورية في تاريخ العالم القديم.

ثانيا: قوى صاعدة، مثالا لها: توحد القبائل العربية تحت راية ديانة واحدة هي الإسلام، وانطلاقها لتسيطر على مساحة هائلة من العالم، فيما صار يعرف بالفتوحات الإسلامية.
ثالثا: في مرحلة متأخرة حسمت القوة العسكرية بعد الثورة الصناعية توسع الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عن أملاكها الشمس بالهيمنة على دول ذات سيادة وإخضاعها لتاجها، سواء بالاحتلال العسكري المباشر أو بفرض الحماية أو بوضع دول تحت الانتداب.

كانت الحرب من خلال القوة العسكرية واضحة المعالم في بسط النفوذ أو تعزيز الوجود للدول، لكن من بعد الحرب العالمية الأولى بدأت القوة العسكرية تتعرض لمنحنى آخر جعلها غير قادرة على استمرار معطيات النهج القديم، مع نشأة مفهوم الدولة الوطنية واتساعه ليشمل الدول الصغيرة، ومن ثم تغير طبيعة العلاقات الدولية. إنها حركة التاريخ التي لا تهدأ والدهاء الكامن في صيرورته.

طوال التاريخ حتى مرحلة "الحقبة الحديثة المتأخرة" التي انتهت واقعيا مع الحرب العالمية الثانية، كان هنالك فرق في الفكر العسكري بين اليقين الذي يرتبط بالحرب ككل والمعارك التي تتخللها التي يمكن أن يتخلخل اليقين أثناءها أحيانا، لكن التاريخ المعاصر في تبدياته القريبة والآنية سلك منعطفا مغايرا في يقين الحرب ذاتها.

أدى إلى تراجع اليقين في كينونة ومفهوم الحرب باستخدام القوة العسكرية أربعة عوامل هي:

أولا: أن القوى الكبرى لم تعُد قادرة على الاشتباك المباشر بينها بعد رعب الفناء نتيجة ظهور السلاح النووي الذي أحدث توازن الردع، وبالتالي أصبحت هذه القوى تتحاشى تماما أي درجة مهما صغرت من المواجهة العسكرية، بعد أن كانت الدول العظمى والإمبراطوريات قادرة على الانخراط في حرب مباشرة بين بعضها البعض، حتى أفول الحقبة الحديثة المتأخرة التي انتهت بقنبلتي هيروشيما ونغازاكي.

ثانيا: أدت الأساليب التي استجدت على الحرب، بدءا من الجيل الرابع الذي يتصف الصراع فيه بعدم وضوح الخطوط الفاصلة وظهور الحرب اللامتماثلة (Asymmetric Warfare) المربكة للقوات النظامية، واتسام الإرهاب حاليا في ظل هذه التحولات بأنه أصبح عابرا للدولة القومية لدى تنظيمات تنتفي عند قواعدها الانتماءات الوطنية، كل هذه المستجدات خلخلت بشدة ثوابت يقينية عن الحرب كانت راسخة.
ثالثا: الحروب الصغيرة المعاصرة التي خاضتها بعض القوى الكبرى ضد دول أقل بفارق هائل في ميزان القوة، نتج عنها فشل القوى الكبرى في تحقيق أهدافها، مثلما كانت جيوش الاستعمار الكلاسيكي تفعل من قبل، وهذا بدوره أدى إلى زعزعة مفاهيم القوة العسكرية، ومن ثم اليقين في حروبها.

رابعا: هبطت التكنولوجيا على المشهد العسكري بمعضلات أجهدت خبراء التسليح في إيجاد حلول تجعل القوات قادرة على التصدي لأسلحة جديدة أحدثت نقلة نوعية غير مسبوقة، تسببت في تعطل كثير من الأسس الاستراتيجية وقوانين القتال وقواعد الاشتباك، منها على سبيل المثال الصواريخ الفرط صوتية التي لم تتمكن ماكينة التسليح حتى الآن في إيجاد حلول لإنتاج أسلحة مضادة لها.

وبالمثل، أصبحت الطائرات المسيرة بخسة التكاليف المالية واللوجستية قادرة على التسبب في خسائر كبيرة نتيجة صعوبة التصدي الكامل لها من المضادات الأرضية، كما أن التكنولوجيا نجحت في مضاعفة دور الحرب الإلكترونية وتأثيرها في إحداث إعاقة لوسائل الاستطلاع والمواصلات الحديثة، ومن ثم مواجهة مشكلات خطيرة في السيطرة على القوات.

أحدث زخم العلاقة بين السلاح والمعدات العسكرية والتكنولوجيا إلى تحول في طبيعة الحرب النظامية وإمكانية نشوء قوى جديدة، سواء من دول صغيرة أو منظمات عسكرية وميليشيات أو جماعات إرهابية أصبحت قادرة على تغير المعادلة التي استقرت منذ عرفت البشرية القوات النظامية، وما بين التحول في طبيعة الحرب وتغيّر المعادلة غاب اليقين عن الحرب في إطارها العسكري.