"بوسع حبة أرز واحدة أن تقلب الميزان.. ويمكن لجندي واحد أن يكون سبباً في النصر".. لم تفارق هذه الكلمات مخيلتي منذ سمعت شخصية إمبراطور الصين تتلوها على مسامع قائد جيشه في فيلم كرتون "مولان"، تلك الفتاة التي تظاهرت بأنها رجل حتى تتمكن من الذهاب للحرب بديلاً عن والدها المسن، وتشير كتب أدبية وتاريخية إلى أنها قد تكون شخصية حقيقية بالفعل حاربت خلال هجوم لـ"الهون" على الصين.
خسرت البشرية ملايين الأرواح، في نزاعات متعددة.. وبينما تستمر الحرب بين موسكو وكييف في عصرنا الحالي، ونزاعات محدودة أخرى، لا يمكن التجاهل التام لفكرة أننا قد نكون نعيش في واحد من أهدأ العصور.. كما علينا ألا ننسى أن الزخم الذي تحظى الأحداث به في حياتنا، نظراً لانفتاحنا على العالم عبر القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، يدفعنا لتضخيم الأحداث شئنا أم أبينا.. فما كان "حكم العامة" بالنسبة للإغريق، هو تعبير عن الحرية والليبرالية بالنسبة للشعوب اليوم، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.. وما يزعجنا اليوم من تجارب على بعض الكائنات الحية، كالفئران، لإثبات فاعلية دواء من عدمها، أتى بعد عقود من تجارب على البشر الأكثر فقراً، ممن لا يستطيعون الاعتراض.. وبينما فشلت "عصبة الأمم" بعد الحرب العالمية الأولى، فإن مبادئ مثل المحادثات والتفاوض، حققت تقدماً ملموساً خلال العقود التي تلت.. ورغم أن كثيرين ينتقدون عمل "الأمم المتحدة" ويرون فيه "جعجعة بلا طحين"، فإن ترسيخ مبادئ مثل الحوار، أمر يبعدنا عن الغوغائية، والاحتكام لنزعة أحدهم لغزو بلد أو آخر، ويقلل - ظاهرياً وباطنياً وبأشكال مختلفة - من الإسراع للهجوم، غريزياً ككثير من الكائنات الحية، عند الشعور بالاستفزاز والغضب.
لا تسيئوا فهمي! بالطبع لا تعيش البشرية في عالم من الطيور والزهور فقط، وليس الحديث هنا عبر "منظار وردي" يتجاهل الحقائق الأخرى في الكوكب الذي نسكنه، لكن دعونا نتوقف لحظة لنصفق.. نصفق للمنجز البشري في عالم تجنب القتال، الذي قد يرى بعض علماء الاجتماع فيه امتداداً لغريزتنا للبقاء، وبقايا مما عاشته البشرية عبر تطورها الحيوي، استناداً لنظرية "النشوء والارتقاء".. فبالحوار بتنا نحاول الوصول لأراضٍ "وسط"، كثيراً ما ننجح في الوصول إليها.. وبصناعة الحضارة، عبر التطور العمراني والفنون وغيرها، نلمس أجزاء في أرواحنا البشرية تبعدنا عن العنف، وفي صنع الحضارة اختلافنا الأكبر عن باقي الكائنات الحية، كما يرى علماء وخبراء.
وفي كرة القدم، باعتبارها منجزاً حضارياً بدورها، تقنين للفكر "الوطني" الذي قد يزيد عن حده فينقلب لضده، وكثيراً ما يتحول لحرب شعواء.. نعم، في كرة القدم، تلبس قميص فريق بلادك - أو الفريق الذي تفضل عموماً أياً يكن - دون أن تثير حفيظة أحدهم، فـ "أحدهم" يرتدي قميص بلاده أيضاً، وفي "كأس العالم" يحق للعالم أجمع أن يتباهى بمن يشجع.. تتدحرج "المستديرة" في الملعب ذي الـ 128 متراً، فتتدحرج معها قلوب المشجعين، وتتعالى هتافاتهم كل لصالح فريقه.. يتجمع عشرات الآلاف في استاد واحد، دون أن تشعر بالخوف لحظة واحدة منهم، وتخيل أنه في روما القديمة كانت مدرجات مشابهة تشهد على "لعبة" يتقاتل فيها البشر مع بعضهم البعض، أو مع حيوانات مفترسة أخرى، حتى يقضي أحدهم على الآخر منتزعاً أحشاءه أمام الجماهير المشجعة لهذه الوحشية والهمجية!
ليست كرة القدم بحاجة لمن يسوقها، فمحبوها يتجاوزون عشرات، بل مئات الملايين حول العالم.. لكن بغض النظر عما إذا كنت مشجعاً متعصباً لنادٍ إسباني أو إنجليزي أو ألماني بعينه، أو غيرهم، فإن لكأس العالم - الذي فارقتنا نسخته هذه قبل أيام قليلة بتتويج الأرجنتين بطلاً - نكهته الخاصة، كونه يحتفي بـ "الوطنية" التي تجمع كثيرين ليشجعوا منتخبات بلادهم، والبلاد التي يرتبطون بها مشاعرياً، كالجماهير العربية التي شجع معظمها منتخبات السعودية والمغرب وتونس وقطر.. فالحماس معدٍ، والرايات الخفاقة تحرك المشاعر، والدقائق التسعون - على الأقل - التي يقضيها المشاهد مشجعاً عتيداً، ومؤمناً عنيداً بفوز فريقه، تلهب أحاسيس متضاربة من الثورة، والأمل، والانتصار، أو حتى الحسرةٍ، حسب النتيجة.
يبدأ الولع بكرة القدم، عادة، في سن الطفولة، فهي لعبة، ومن يحب الألعاب أكثر من الأطفال؟ ومثلهم أحببتها طفلة، وكبر الحب في سنين المراهقة، مع رونالدو "الظاهرة"، وفرق كبيرة التزمت بتشجيعها - بمتابعة وصدق كبيرين لسنوات طويلة - كريال مدريد ومانشستر يونايتد.. لكن لا شيء يقارن بحضور المباريات مباشرة، من داخل الاستاد، في بلد يحتضن كأس العالم.. الرايات التي تملأ الشوارع، موصولة بأيدي المشجعين من شتى أرجاء العالم.. المزاح بين الجمهور حول أيهم سيربح فريقه مباراة اليوم.. انتقادات الجماهير للمدربين، وتأكيد الكل أنهم "لو كانوا مكانه لوضعوا استراتيجية لعب أفضل".. أغاني المونديال.. الفرق التي صنعت لنفسها تاريخاً بفوزها على من يعتبر تقليدياً أقوى منها كروياً (السعودية والأرجنتين، اليابان وإسبانيا، المغرب والبرتغال.. وغيرهم)..
في كرة القدم فعلاً، خاصةً في المونديال، يمكن لـ "جندي واحد" بالفعل أن يكون "سبباً للنصر"، وأن تقلب "حبة أرز واحدة" الميزان، عبر أمجاد وهفوات للاعبين متفردين، وفرق أسعدت شعوباً بأسرها.. وتأكيد جديد على أن للبشرية طرقاً متعددة - غير الحرب - للوصول لنشوة الفوز، ولذة الانتصار، رغم بعض الدموع المؤثرة في أعين الخاسرين.