لا تبدو الحكومات العراقية المتعاقبة مهتمةً بإصلاح الاقتصاد العراقي، وإبعاده عن الاعتماد على الريع النفطي، أو إجراء إصلاحات هيكلية يمكن أن تقود إلى بناء اقتصاد حديث قائم على أسس علمية سليمة.
معظم القرارات السياسية والإدارية العراقية خلال العقود الخمسة المنصرمة مبنية على أساس استمرار الاقتصاد الريعي، وهي في معظم الأحيان بعيدة عن النظرة التنموية البعيدة الأمد للاقتصاد الحديث. لذلك نرى أزمة خانقة تحصل في كل مرة تنخفض فيها أسعار النفط، وتبذيرا عشوائيا وغير مبرر عندما ترتفع الأسعار إلى مستويات قياسية.
وزارة التخطيط، التي يفترض أنها تضع الخطط الاستراتيجية للمستقبل وتوفر المعلومات المطلوبة لإصلاح الاقتصاد، وتضعها أمام المسؤولين والمستثمرين والرأي العام، كي يستفيدوا منها ويضعوا خططهم على أساسها، تقول على موقعها (لا تتوفر بيانات ومعلومات تعكس واقع حال القطاع الخاص واحتياجاته لإعداد الدراسات الخاصة بسوق العمل والسياسات المتعلقة بالقوى العاملة)! فإن كانت وزارة التخطيط "تشكو دهرها" فمن يا ترى يعرف هذه المعلومات؟ هل يقوم بها القطاع الخاص نفسه مثلا؟
وتفصِّل الوزارة في حقل (التهديدات) أهم المشاكل التي تواجه البلد وتدرِج 24 مشكلة أولاها هي (تعدد الجهات التفتيشية والرقابية)! وثانيها (ضعف القدرات التخطيطية على مستوى الحكومات المحلية)! ولا ندري من المسؤول يا ترى عن هذه المشاكل في رأي الوزارة! أليست الحكومة نفسها؟ كما لا يوجد أي تفصيل في تشخيص هذه (التهديدات)، بل هناك كلام عام يعرفه القاصي والداني. من المعيب أن تصدر مثل هذه التعميمات من جهات متخصصة ووزارة تُعتبَر سيادية وتتنافس (بل تتخاصم وتتحارب) عليها الكتل السياسية.
وتتقدم هذه الوزارة المتخصصة، التي تنفِق مئات الملايين من الدولارات سنويا على نشاطاتها، أسبابا للتدهور منها (عدم استقرار الوضع الإقليمي)! و(ضعف الصناعة المحلية) و(عزوف المتخصصين عن المشاركة في اللجان الاستشارية)! أو أن (بعض الجهات لا تتعاون)! و(عدم وجود خطة واضحة لبعض الجهات)! إن مثل الكلام العام يمكن أن يقوله المواطن العادي، وهو بالتأكيد لا يليق بوزارة متخصصة تتوقع منها الدولة أن تقدم خططا مفصلة وتشخيصات دقيقة.
وزارة التخطيط هي من مخلفات الأنظمة الشمولية، والتخطيط يجب أن يناط بمعاهد ومراكز تخصصية مستقلة، ويجب ألا يكون مرتبطا بوزارة يتحكم بها سياسيون لا يجرأون على قول الحقيقة، ولا يعترفون بأخطائهم، بل إن بعضهم لا يدرك أنه يخطئ، وبدلا من التقييم الموضوعي لنشاطاته، فإنه يتحدث عن إنجازات متخيلة.
المتابع لقرارات وتصريحات المسؤولين العراقيين يرى أنها تتركز على معالجة شؤون آنية، بل إن معظمها ردود أفعال على مخالفات قانونية ونشاطات فاسدة. وإن أهملنا تصريحات المسؤولين السابقين، وهي في معظمها لا تمت إلى المصلحة الوطنية بصلة، بل تنم عن جهل في أساسيات الاقتصاد، فإن خطط رئيس الوزراء الجديد، محمد شياع السوداني، وتصريحاته، تركزت حول كيفية تقليص الإنفاق وتوفير المال العام، ليس عبر مكافحة الفساد أو تحسين الجباية الضريبية، أو حتى استرجاع السرقات المباشرة الأخيرة من مؤسسة الضرائب، التي وقعت في ظل الحكومة السابقة، وقدرها وزير المالية السابق، علي علاوي، بـ12.5 مليار دولار، بل عبر تقليص رواتب الموظفين العالية.
صحيح أن العدالة في الرواتب التي تمنحها الدولة لموظفيها مطلوبة، بل ضرورية، وأن هذه العدالة غائبة حاليا، وهناك تفاوت كبير وغير مبرر في الرواتب بين مؤسسات الدولة المختلفة، فإن حجم الراتب يجب أن يعكس كفاءة الموظف وخبرته ومدى الحاجة لخدماته، وأن من الضروري أن يكون مجزيا، كي يستقطب الخبراء والأكفاء، وكي يكون محفِّزا للموظف على الإبداع ويجنِّبه الانخراط في نشاطات غير قانونية.
لكن تقليص الرواتب من أجل توفير المال العام له تأثيرات سلبية خطيرة على الاقتصاد، يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار قبل اتخاذه، وهذه التأثيرات مشابهة لإجراءات رفع الضرائب، أو خفض قيمة العملة، وهي تؤدي إلى تخفيض الاستهلاك وتقليص الانفاق في معظم القطاعات الاقتصادية، الأمر الذي يلحق أضرارا بهذه القطاعات.
تقليص رواتب الموظفين لا يؤثر على مدخولاتهم الشخصية فحسب، بل على نشاطات القطاعات الأخرى، ويحدِث كسادا دون مبرر، ويقلص الاستثمارات، ويحط من الثقة في الاقتصاد عموما، وفي النهاية يؤدي إلى زيادة البطالة وتقليص إيرادات الدولة من الضرائب، وزيادة الاعتماد على الخدمات الحكومية والمساعدات التي تقدمها الدولة.
الكثير من الدول ترفع الرواتب والإيرادات بطرق متعددة منها تقليص الضرائب مثلا، سواء المباشرة أو غير المباشرة، من أجل زيادة الاستهلاك المحلي، خصوصا من المنتجات المحلية، والهدف العام من هذا الإجراء هو التنمية الاقتصادية البعيدة الأمد، التي تقود إلى تقليص البطالة واستقطاب المزيد من الاستثمارات.
وإذا وضعنا السرقات المباشرة من المال العام جانبا، فإن من أفدح الكوارث الاقتصادية في العراق هي التوظيف غير المسؤول الذي تمارسه الجماعات السياسية لأتباعها في دوائر الدولة، والذي يحصل في أكثر الأحيان دون وجود حاجة لهم، ويشكل اعتداءً صارخا على موارد الدولة الريعية، ويتسبب في تدهور الخدمات. ويحصل توظيف الاتباع أحيانا، عبر إحالة موظفين حاليين، من ذوي الخبرة والكفاءة على التقاعد، قبل سنين من بلوغهم السن القانونية، إذ يُحالون على التقاعد وهم دون الخمسين أو الأربعين من العمر، من أجل توظيف آخرين محلهم.
والذي يحصل في مثل هذه الإجراءات، التي لا تعير أدنى اهتمام للمصلحة العامة، وتهدف إلى زيادة شعبية هذا السياسي أو ذاك القائد المليشياوي، هو تكبيل الدولة بمتقاعدين شباب، وموظفين لا يتمتعون بأدنى درجات الخبرة، وكل همِّهم هو خدمة من جاء بهم إلى الوظيفة. وقد ابتدعت الجماعات السياسية الفاسدة طرقا مبتكرة للتوظيف، فمن أجل أن تخفي مسؤوليتها عن توظيف أتباعها، فإنها تتفق على أن توظف كل جماعة أتباع جماعة أخرى في الوزارة أو المؤسسة التي تهيمن عليها.
مَهمة السوداني عسيرة، خصوصا مع وجود عقبات كثيرة أمامه، لكن بإمكانه ابتداءً أن ينصف الشرائح الفقيرة، خصوصا المشردين والنازحين بسبب الإرهاب، وتحسين خدمتي الصحة والتعليم اللتين يستفيد منهما الفقراء بالدرجة الأولى، وتعزيز البنى الأساسية للبلد كالطرق المتهالكة وخطوط المواصلات العامة، خصوصا القطارات والحافلات التي أصبحت شحيحة، بعد أن كان العراق في صدارة دول الشرق الأوسط التي استخدمتها.
هناك الآن ما يزيد على ثلث السكان من هم على خط الفقر أو دونه، حسب الاحصائيات الرسمية العراقية، بينما تقدر مؤسسات دولية نسبة الفقر في العراق بـ 52.4% (حسب مؤسسة Macrotrends لعام 2012)، أي قبل احتلال داعش لثلث العراق عام 2014 وتشريد الملايين من سكانه وإفقارهم. ويقاس الفقر بتدني إيراد الفرد دون 8 دولارات يوميا.
وتشير إحصائيات برنامج الغذاء العالمي إلى أن مليونين وأربعمئة ألف شخص في العراق بحاجة ماسة إلى الغذاء! والكثير من هؤلاء يعتاشون على ما (تجود) به المزابل من فضلات، في مشاهد يومية تؤلم كل من لديه أدنى المشاعر الإنسانية، في بلد يتمتع بثروات طبيعية هائلة، وكفاءات بشرية خلاقة، برهنت على جدارتها في دول العالم الأخرى، التي تقيِّم الكفاءة والنزاهة والإخلاص.
بإمكان حكومة السوداني أن تشرع ببناء مساكن حديثة لإيواء سكان العشوائيات، التي تنتشر في كل المدن العراقية، وإيصال الخدمات الضرورية للأحياء الفقيرة، وأهم هذه الخدمات هو إيصال الكهرباء والماء الصالح للشرب، وإنشاء المجاري لحماية الأهالي من الأذى والخسائر التي تخلفها مياه السيول في فصل الشتاء، إذ تغرق أغلب الأحياء، وتنقطع الطرق الرئيسية لمجرد هطول أمطار غزيرة ليوم أو يومين، وهذه الحالة تتكرر كل عام.
وبإمكانها أيضا إصلاح المستشفيات العامة المتهالكة، التي قال عنها السوداني نفسه "إن الأصحاء يمرضون عندما يدخلونها"، وبناء المزيد منها في المدن التي ارتفع عدد السكان فيها بشكل ملحوظ. فقد ازداد سكان العراق خلال عقدين من 25 مليون نسمة عام 2002، إلى أكثر من 44 مليون نسمة عام 2022 حسب مؤسسة World Population Review.
وبإمكانها إصلاح مباني المدارس الحالية المزدحمة، والتي تشغل كل منها ثلاث مدارس بالتعاقب في أوقات مختلفة في اليوم، ويجلس الطلاب في بعضها على الأرض، بدلا من وجود رحلات وتسهيلات تحفزهم على التعلم.
وبإمكانها أن تزيد عدد الحدائق العامة في المدن العراقية، لتحسين البيئة وتقليص الأمراض التنفسية المنتشرة، وإيجاد متنفس للعائلات لقضاء بعض الوقت في أجواء مريحة. المدن العراقية أصبحت تجمعا للكتل الكونكريتية، إذ استغلت معظم العائلات الفقيرة حدائق المنازل للتوسع من أجل استيعاب الأعداد المتزايدة من السكان. أما الشوارع فتتراكم فيها الأزبال وتطفح في الكثير منها المياه الآسنة، ما يزيد من الأمراض ويفاقم تعاسة المجتمع، ويدفع كثيرين إلى الهجرة، سواء إلى الخارج أو إلى مدن أخرى.
يجب أن تُستَغَل المساحات الفارغة في المدن لإنشاء حدائق عامة، وهذه لا تكلف كثيرا، بل تساعد على تشغيل العاطلين وتقلص إنفاق الدولة على الصحة وترفع من مستوى التعليم، خصوصا وأن التلاميذ الفقراء سوف يستغلونها للدراسة، إذا ما وجدت فيها التسهيلات الأساسية كالكهرباء ومياه الشرب والمصاطب. وبالإمكان تشريع قانون يلزم مالكي الأراضي الفارغة بتحويلها إلى مساحات خضراء.
وبإمكانها أيضا تشغيل المصانع العاطلة، خصوصا تلك التي تنتج سلعا مطلوبة محليا، كمعامل الإسمنت والنسيج والإطارات وغيرها، والتي أهملت بهدف تشجيع الاستيراد، فأصبح العراق يستورد حتى مياه الشرب من الدول المجاورة، التي لا توجد فيها مياه عذبة. الزراعة في العراق تراجعت بسبب شح المياه الناتج عن تحريف مسارات الأنهار والروافد، وإقامة السدود في دول المنابع أو المرور، وكذلك تجاوز أصحاب الأراضي الأقوياء على الحصص المائية المخصصة للزراعة. لكن هذه العقبات يجب ألا تعني القبول بالأمر الواقع وإهمال الزراعة كليا، بل يمكن التركيز على المحاصيل التي تحتاج إلى كميات أقل من المياه.
مجالات الإصلاح والاستثمار في العراق لها أول وليس لها آخر، والمطلوب أن تكون هناك خطط جادة وطويلة الأمد لانتشال البلد من أوضاعه المزرية. إعادة هيكلة الاقتصاد لم تعد ترفا كما يتوهم بعض السياسيين، بل هي ضرورة مُلِحَّة.