في كتابه الممتع الذي يرافقني عادة في أسفاري "ألف حكاية وحكاية من الأدب العربي القديم" ينقل أستاذنا حسين أحمد أمين قصة طريفة من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني.
ويختار للقصة عنوان: الشفيع العريان.
تقول الرواية كما وردت في كتاب الأغاني: "غَضِبَتْ النَّوارُ زوجُ الفرزدق منه، فخرجت إلى عبد الله بن الزبير ونزلت على زوجه خولة بنت منظور بن زبَانا، وسألتها الشفاعة لها، بينما نزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوعده الشفاعة، وتكلمت خولة في النوار" أي دافعت عنها ضد الفرزدق"، وتكلّم حمزة في الفرزدق، فأُنْجِحَتْ خولة – أي نجحت خولة في إقناع بن الزبير بسلامة موقف النوار".
وأمر ابن الزبير الفرزدق ألا يقربَ النَّوار.
فقال الفرزدق في ذلك:
أما بنوه فلم تنجح شفاعتهم
وشُفَعَتْ بنتُ منظور بن زَبَّانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً
مثل الشفيع الذي يأتيك عُريانا
على هذا النحو تبدو الحكاية طريفة، تروي جانبا من قصة زوجين تخاصما، فانتصر من حكم بينهما للزوجة على حساب الزوج.
لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فما حدث قبل حكم عبد الله بن الزبير من مقدمات وما ترتب عليه من نتائج، يجعل هذا المشهد أكثر تعقيدا، غير أن أستاذنا حسين أحمد أمين لم يعرض في كتابه بداية القصة، كما أنه لم ينقل نهايتها.
على الرغم من أن تفاصيلها وردت في كتاب الأغاني، كما وردت في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، وغيره من كتب السير الأدبية.
أصل الحكاية
فأما الفرزدق فهو همام بن غالب التميمي، وأما زوجه فهي بنت عمه النّوارُ ابنة أمين بن ضُبيعة المُجَاشِعى، وكان علي بن أبي طالب رضى الله عنه وجه أباها إلى البصرة أيام الحكمين.
فقتله الخوارج غِيلَةٌ، المهم، تقدم رجل من قريش لخطبة " النَّوَارَ" وكان أهلها بالشام، فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليها في الزواج بمن خطبها من قريش، فهو ابن عمها ومصدر فخر العائلة وشاعر بني تميم الأشهر، فقال الفرزدق إنّ بالشام من هو أقرب إليكِ منى، ولا آمَنُ أَن يَقدَم قادم منهم فينكر ذلك على، فأشهدي أنك قد جعلت أمرك إلى، ففعلت النوار وقالت للشهود إنها قد وكلت الفرزدق في أمر زواجها.
إلى هنا تبدو القصة عادية جدا، لكن ما هو غير عادي بل وصادم أيضا، أن الفرزدق خرج على الشهود وقال لهم: "قد أَشْهَدَتْكُم أَنها قد جعلت أمرها إلى، وإني أشْهدُكُمْ أنى قد تزوجتها على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق".
وهنا وقعت الواقعة فالمرأة التي وكلته لتزويجها وجدت نفسها فجأة زوجة له، فماذا تفعل؟!
لجأت النوار إلى شيوخ القبائل في البصرة حيث تعيش فلم يجرها أحد احتراما للفرزدق أو خوفا من هجاء شعره أو بطش قبيلته، لا يهم، فالمهم أن أحدا لم يجرها فهربت إلى الحجاز حيث عبد الله بن الزبير أميرا، فكان ما ذكرناه آنفا.
كيدهن عظيم وقلوبهن رقيقة
حين علم عبد الله بن الزبير بما قاله الفرزدق من شعر استشاط غضبا حتى إذا خرج للصلاة لقي الفرزدق فبطش به وكاد أن يقتله، ثم قال للنوار: "هذا ابن عمك فإما ترجعين إليه، وإما أن أقتله".
فرق قلب النوار وقبلت بالعودة إلى البصرة مع الفرزدق، لكنها كانت تعنفه وتهجره في الفراش، وشاعت القصة بين الناس حتى أن الشاعر جرير غريم الفرزدق الأشهر أنشد يقول:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا
ولو رضيت رمح استه لاستقرت
يعني بدون شرح المعنى "الجريء" للبيت إن النوار لم ترض بالفرزدق زوجا.
فلما شعر الفرزدق بالإهانة جعل يخونها، حتى أنه تزوج عليها ولم يدم زواجه طويلا، وفي محاولته رد الإهانة للنوار فقد واعد جارية أن تأتيه في الخيمة ليلا، فأخبرت الجارية النوار بالأمر، فطلبت منها أن تدخل مكانها إلى خيمة الفرزدق، وقالت لها هو رجل عجوز ولن يكتشف الأمر.
وأمضى الفرزدق الليلة مع النوار حتى إذا ما أشرقت الشمس، اكتشف الفرزدق أنه أمضى ليلته مع النوار فقال لها: أهو أنت؟!
فقالت: نعم أنا يا فاسق
فأطلق مقولته التي باتت مثلا يضرب: لله ما ألذك حراما وأقبحك حلالا
الخروج من الجنة
ولم يدم زواج الفرزدق والنوار بعد تلك الليلة طويلا حتى طلقها، لكنه في ذات يوم طلاقها أنشد يقول:
ندمت ندامة الكُسَعي لمًا
غدت مني مطلقةً نوارُ
وكانت جنتي فخرجت منها
كآدم حين أخرجه الضرارُ
أحب الفرزدقُ النوارَ حبًا جما، لكنه لم يحترمها، ورق قلب النوار على الفرزدق حين كاد أن يقتله ابن الزبير، لكنها لم تسامحه على إهانته لها حين تزوجها بحيلة رغما عنها.
وحين قررت النوار بمحض إرادتها أن تقضي ليلة مع الفرزدق، كانت أجمل الليالي.
إن مفتاح فهم قصة الفرزدق والنوار هو مثلث الحب والحرية والاحترام، هذا المثلث الذي إذا اكتملت أضلاعه استقامت العلاقة بين الرجل والمرأة، زوجان كانا أم حبيبين.
ولعل الرجال في بلادنا المسكونة بوهم الذكورية يدركون هذا الأمر، ساعتها ستتراجع بالتأكيد معدلات الطلاق الآخذة في الارتفاع، وستختفي دون شك قصص الانتقام الصبيانية التي أدمت قلوبنا في الفترة الأخيرة.