نظر فلاسفة الإغريق إلى نظام الجمهور (=النظام الديمقراطي) بوصفه نظاما للغوغاء والفوضى وأَزْروا بمرتبته في سلم الأنظمة السياسية، فيما فضلوا عليه نموذج النظام الأرستقراطي (=نظام حكم الأفاضل)، كما عند أفلاطون، أو نظام الحكم الدستوري المزيج بين الأرستقراطي والديمقراطي (كما عند أرسطو). كان ذلك أول نقد في التّاريخ لنموذج النّظام الدّيمقراطيّ. ولقد مرّ ما يزيد عن 2300 قبل أن يتجدد نقده في التاريخ المعاصر.

ما من شكّ في أنّ فكر فلاسفة اليونان - شأنه شأن فكر مفكّري المسيحيّة والإسلام بعدهم - كان محكوماً بپراديغم كلاسيكيّ تتنزّل فيه ثنائيّةُ الجمهور- النّخبة؛ العامّة- الخاصّة؛ الرّعيّة- الصّفوة منزلةً رئيساً، فكان مألوفاً أن تُذَمّ الأولى لكونها جاهلة وسائبة وتتحكّم فيها الأهواء (القوى الشّهوانيّة والغضبيّة)، وتنقاد انقياد الأعمى إلى من يتلاعب بمشاعرها، ولا يأتي من ورائها إلاّ الفوضى والثّوران والفتن. ومن الطّبيعيّ أن يُفضيَ هذا المعتَـقد الرّاسخ في ذهنيّة الفلاسفة والمفكّرين إلى رؤيةٍ إلى السّياسة بوصفها الشّأن الذي يُدَبَّـر بالعقل فيَصِحّ ويستقيم أمرُه، أو تدْخُـل عليه الغوغاءُ والدّهماء فيفْسُد؛ كما في حالة النّظام الدّيمقراطيّ عند فلاسفة اليونان.

كان لحكم الأفاضل (= الأرستقراطيّة) في ذلك الإبّان معنًى محدّدٌ: حكم الأغنياء الذين يكفيهم غِناهُم عن الاغتناء من الدّولة أو نهبها؛ وحكم الوجهاء المُتَحلّين بأخلاق الوجاهة والشّرف. وعلى المنوال هذا نُسِـج في التّاريخ فرُجّح الأعيان والشّرفاء ثمّ النّبلاء كي يكونوا الحكَّامَ على النّاس. هكذا سيحصل في العهود اللاّحقة كافّة: الرّومانيّ، والمسيحيّ الوسيط، والإسلاميّ، والأوروبيّ الحديث (في عهد النّهضة والإصلاح الدّينيّ)، بل هكذا كان الشّأن - أيضاً - بالنّسبة إلى أنظمة الحكم التي قامت في آسيا: في الصّين والهند وبلاد فارس.

كان معيار قياس مراتب النّاس إمّا ماديّاً: الغِنَى، أو رمزيّاً: الوجاهة ونفاسة المَحْـتِـد. وكان ذلك يكفي - لدى أهل تلك الأزمنة - كي يكون ضمانةً لقيام حكمٍ صالح؛ لا فساد فيه ولا نَهْب ولا جَــوْر. وحين قام النّظام الدّيمقراطيّ في أوروبا القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، وقَع التّطويح بهذا المبدأ الذي كان عليه مبْـنَى السّلطة، واستُعيض عنه بمبدإ آخر أصلح هو الرّائز الذي به تُــرَاز شرعيّة السّلطة: مبدأ التّمثيل. ولم يَـبْق من المبدأ القديم إلاّ القليل الذي احتفظت به الدّيمقراطيّة الإنڱليزيّة وقليل من المَلكيّات الأوروبيّة.

بُـنيَ نظام التّمثيل، في الدّيمقراطيّات الحديثة، على قاعدة المساواة في الحقوق السّياسيّة القانونيّة بما فيها الحقّ في التّصويت. وكان ذلك إيذاناً بإدخال الجمهور كفاعلٍ سياسيّ جديد. ومع أنّ التّمثيل ظلّ محكوماً بعوامل خارج السّياسة، مثل القرابة والعصبيّة الأهليّة والمحليّة والمال والعِـرق والمذهب، إلاّ أنّ صورة السّلطة وقواها كانت تُـرْسَم بأصوات الجمهور النّاخــب. وحتّى حينما بدأتِ المنافسات الانتخابيّة تجري على أسس الاستقطاب الإيديولوجيّ، لم يكن أمام أيّ نخبة (= حزب) تتنافس على السّلطة أن تكسب التّمثيل إلاّ من طريق تعبئة الجمهور ومخاطَبة أوضاعه الاجتماعيّة أو مظلوميّـته، حتّى وإنْ لم تَـفِ بوعودها.

ومنذ القرن العشرين أصبح الاستيلاء على الجمهور ممرّاً إلى الاستيلاء على السّلطة لتزدهر، بذلك، نزعة شعبويّة باتت هي عقيدة السّياسة اليوم: عند اليسار كما عند اليمين. ولقد كانت بداية انفضاح هذه الهندسة الدّيمقراطيّة مع صعود النّازيّة إلى السّلطة. لم تصلِ النّخبة النّازيّة إلى السّلطة - وهي نخبة معادية للحريّات وللدّيمقراطيّة - بالانقلاب العسكريّ، بل بلعبة التّمثيل؛ بأصوات الشّعب والجمهور (= عين ما سيحصل في مصر مع محمّد مرسي). وهكذا بات في إمكان الدّيمقراطيّة أن تنقُض نفسَها بنفسها: الجمهور!

واليوم؛ في العالم كـلّه تعاني الدّول كافّـــة وجود نخب في السّلطة يدير رجالُها أجهزة الدّولة (برلمانات، حكومات، مجالس محليّة) إدارةً سيّئة لافتقارهم إلى الخبرة والنّزاهة، ولكنّهم موجودون بقوّة التّمثيل وباسم الشّرعيّة الشّعبيّة! والمفارقة في أنّ أيّ دولة في العالم دارجة على أن  تُـحَكِّـم معيار الكفاءة في اختيار موظّفيها وتعيينهم (شهاداتُ أهْليّة، مبارياتُ توظيف، تدرُّج في الخدمة وترقيات)؛ وهكذا لا تقبل مؤسّسة الجيش، أو المخابرات، أو الأمن، أو القضاء، أو الوظيفة العموميّة، أو الجمارك، أو البنوك وشركات التّأمين أو وحدات الإنتاج الصّناعيّ... إلاّ الكفاءات العالية المتكونّة أو ذات الخبرة المشهود لها...، ما خلا الحكومات والبرلمانات ومؤسّسات الإدارة المحليّة التي لا تخضع لمعيار الكفاءة، بل لمعيار التّمثيل، حتّى لو كان المنتَخَب لمهمّته جاهلاً! والأنكى أنّ هذه المؤسّسات التي لا يكون مبدأ الكفاءة هو المعيار في تشكيلها هي التي تَحْــكُم المجتمع وتحــكُم حتّى المؤسّسات التي مبناها على الكفاءة !!!

نقطة ضَعف النّظام الدّيمقراطيّ، اليوم، أنّ مصيـرَهُ يتقرّر بالأصوات وأعداد المصوِّتين، وأنّ من تُنتِجهم لعبةُ التّمثيل خليطٌ من القادرين - وهم القِـلَّةُ في الغالب - والقاصرين؛ وهُم الكثرة الكاثرة بينما هو خِـلْـوٌ من «الأفاضل»: لا أفاضل عصر أفلاطون وأرسطو وعصر الفارابيّ، بل أفاضل هذا العصر: الكفاءات! لماذا، إذن، لا تصبح الشّعبويّة دينَ السّياسة ودَيْـدَنَـها في العالم؟!