يتوقع وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أن يزيد حجم الشحن عبر "الممر الأوسط" عام 2022 ستة أضعاف حجمه عام 2021. يعلن الأمر في كلمة بافتتاح الاجتماع الثلاثي لوزراء مواصلات وخارجية تركيا وكازاخستان وأذربيجان، الجمعة في كازاخستان.
فما الذي تخطط له أنقرة داخل حدائق موسكو الخلفية؟
أظهرت الحرب الدائرة في أوكرانيا مدى جزع الدول المحيطة بروسيا من طموحات موسكو لاستعادة الأمجاد السوفياتية والقيصرية والحلم بإمبراطورية أوراسية. عشية حملته العسكرية ضد أوكرانيا شكك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشرعية وجود أوكرانيا كبلد مستقل، فيما شكك نواب روس في حدود كازاخستان.
لم تظهر دول القوقاز التضامن المأمول مع الشقيق الروسي الأكبر. حتى أن موقف كازخستان بالذات يكاد يكون متبرّما من حرب روسيا في أوكرانيا على الرغم من أن بوتين قاد في يناير من هذا العام تحالفا عسكريا متعددا على رأس دول "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" للتدخل في هذا البلد حين تعرض لاختلالات داخلية ضد حكم الرئيس قاسم جومارت توكاييف.
كان الأخير أعلن، بحضور بوتين، في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، في موسكو في يونيو الماضي، أن بلاده لن تعترف بالجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا التي اعترفت بهما روسيا (لوغانسك ودونيتسك)، معتبراً أن هذا الموقف ينسحب على تايوان وكوسوفو وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، مبررًا ذلك بقراءته للمبدأين الدوليين، وحدة أراضي الدولة وحق الشعوب في تقرير المصير.
على أن هذه المنطقة التي تسعى منذ عقود للتحصّن من رياح النوستالجيا الروسية التي تنفخها عقائد قومية روسية أكدتها مواقف تصدر عن بوتين نفسه، وجدت في ما جرى لأوكرانيا تأكيدا على أن هواجسها حيال أخطار روسيا ليست أوهاما، وأن مسألة تمدد طموحات روسيا إليها هي مسألة وقت تحدد مآلات المعركة الأوكرانية قربها من بعدها. حتى أن رئيس طاجكستان إمام علي رحمون ذهب، وبحضور بوتين، خلال القمة الأولى لتجمع رؤساء روسيا وبلدان آسيا الوسطى، في 14 أكتوبر في أستانا، إلى التعبير عن "رغبة بلاده في تعامل أكثر احتراماً" من جانب روسيا.
لم توفّر تلك الدول أي مسعى لتطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة، غير أن مساحة التقارب مع واشنطن بقيت محدودة محسوبة لما يسببه الأمر من استفزاز ليس لروسيا فقط بل للجار الصيني أيضا. وفيما تناور تلك البلدان داخل هامش متأنٍ ما بين روسيا والصين، فإنها جميعها، وبمستويات متعددة، تنسج علاقات مع "البيت التركي" التاريخي الأصيل.
تنتمي شعوب القوقاز إلى إثنيات طورانية وتتكلم لغات متحدّرة من اللغة التركية. ولطالما كانت تركيا لهذه الشعوب، وصولا إلى تلك الايغورية في شمال غرب الصين مرورا بتتار شبه جزيرة القرم، المرجع الإقليمي الأول أيا كان نظام الحكم في أنقرة. ذهب أردوغان في نيويورك في سبتمبر على هامش قمة الأمم المتحدة إلى مطالبة روسيا بإعادة القرم إلى "أصحابها الشرعيين"، مذكراً بأن "أحفادنا (التتار) يعيشون هناك".
تنبهت تركيا باكراً إلى ضرورة مأسسة نفوذها التاريخي الثقافي السياسي في المنطقة. أنشأت منظمة الدول الناطقة بالتركية، التي توسعت تدريجا لتشمل كل الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى. بيد أن تحالفها مع أذربيجان مثّل عيّنة مما تودّه أن يكون مع تلك الدول. وكان جلياً أن المسيّرات والأسلحة التركية التي تسلمها الجيش الأذربيجاني هي التي قلبت مآلات حرب عام 2020 بشأن ناغورني قره باغ لصالح آذربيجان، وهي التي تجعل هذه الأيام من تركيا والرئيس رجب طيب أردغان لاعبين أساسيين في مشهد المنطقة.
تدلي أنقرة بدلوها أيضا في الصراع الذي تجدّد في سبتمبر بين قرغيزيا وطاجكستان. يخشى الطرفان من انحياز تركي يقلب التوازنات، خصوصا أن قرغيزيا استخدمت مسيّرات بيرقدار التركية الشهيرة في المواجهات. وفيما تتطور علاقات قرغيزيا العسكرية مع تركيا وأوزبكستان، فإن طاجكستان تتوسل التوازن من خلال تطوير العلاقات مع إيران. وفي ظل حساسية المشهد تقارب أنقرة علاقاتها بعناية ودراية في تلك المنطقة، وتحسب جيداً تداعيات تلك الخرائط على نفوذ طهران وموسكو.
غير أن أنقرة تسعى لتأكيد نفوذ تركيا وحقها التاريخي في صونه وحمايته. وكان لافتاً في براغ على هامش قمة "المجتمع السياسي الأوروبي" تقديم أردوغان نفسه راعياً للصلح بين أرمينيا وأذربيجان حين دبّر في 6 أكتوبر هناك لقاءً ثلاثيا جمعه مع الرئيسين، الآذاري إلهام عالييف والأرميني نيكول باشينيان، ناهيك من لقاء جمعه مع نظيره الأرميني وصفه بالإيجابي والمؤسّس لتطبيع العلاقات بين البلدين.
يعي أردوغان، الذي يعرف جيداً حقيقة قوة بلاده الاقتصادية، أن تركيا لا تستطيع منافسة الصين في اندفاعاتها داخل هذه المنطقة، وأن بكين أنجزت منذ سنوات اختراقا نوعيا متقدما لا تملك تركيا ردّه وتقويضه. وكان لافتا إعلان الصين في قمة سمرقند لدول معاهدة شنغهاي في سبتمبر عن مشروع لمدّ شبكة سكك حديد تصلها مع قرغيزيا وأوزبكستان بطول 500 كيلومترا. وإذا ما تحسب تركيا خطواتها القوقازية، فإن دول المنطقة معنية أيضاً بأن لا تكون علاقاتها مع تركيا متناقضة مع علاقاتها الصينية والغربية، وألا تشكل تحدياً لحساسيات روسيا بشأن حدائقها السوفياتية القديمة.
على هذا يُراد من هذا "الممر الأوسط" الذي يفاخر به وزير خارجية تركيا أن يكون مناسبة وصل بين تركيا والصين. فهو البديل للممر الشمالي الرابط بين الصين وأوروبا، ويعبر من تركيا إلى منطقة القوقاز، ومنها يعبر بحر قزوين إلى تركمانستان وكازاخستان وصولاً إلى الصين.
على أن روسيا باتت لا تخفي امتعاضها من أنشطة الجمعيات القوقازية في تركيا المعادية لحرب روسيا ضد أوكرانيا. بعض هذه الجمعيات يعمل على تسهيل فرار الروس الهاربين، من قرار التعبئة العسكرية الذي أعلنه بوتين باتجاه تركيا. وكان لتلك الجمعيات في السنوات السابقة دور في دعم لاجئي الشيشان وداغستان كما أولئك الفارين من هجوم روسيا على أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا والشركس الهاربين من حرب روسيا في سوريا.
في موسكو من اتهم قومية الكوميكس بالوقوف وراء الاحتجاجات التي اندلعت في داغستان ضد قرار التعبئة. والكوميكس هم ثاني أكبر ناطقين بالتركية في القوقاز بعد الأذربيجانيين، وهم أكبر شعب تركي في شمال القوقاز وثالث أكبر شعب في داغستان. حتى أن موقعا إخباريا مواليا لموسكو نقل عن برلماني روسي اتهامه لتلك القومية بأنشطة "تحركها واشنطن وكييف"، مذكراً بأنها مجموعة "جهادية" تتحدر من تلك التركية التي كانت تعادي روسيا في عهد القيصر بطرس الأكبر.
وإذا ما برح بوتين يردد أن طموحه من حرب أوكرانيا يروم تغيير النظام الدولي، فإنه بالفعل آيل ربما إلى تغير داخل مناطق النفوذ التاريخية المحيطة بروسيا. يسهل على المراقب أن يلحظ إرهاصات تصدّع "المنظومة السوفياتية" القديمة التي يستند عليها بوتين لإطلاق مشروعه الأوراسي، ويسهل أن يرصد حراك غربي صيني تركي في المنطقة يهدف إلى جني النفوذ داخل هذه الدول حين يحين قطافها.