في وقتها أخطر وأضخم حرب في تاريخ البشرية في العقد الثاني من القرن العشرين وهي الحرب العالمية الأولى، اشتعلت نتيجة صدفة عجيبة لم تكن في الحسبان عندما اغتيل الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند، ولي عهد النمسا، بعد نجاته قبل ساعة واحدة من محاولة فاشلة.
أحد أسباب ذهاب هذا الأرشيدوق إلى البوسنة والهرسك كان مشاعر حبّ الرجل لزوجته التي كانت تعدّ طبقا للتقاليد الملكية من مستوى غير متكافئ مع العائلة، وهذا يمنع عنها الظهور بجوار ولي العهد في الاحتفالات الرسمية باستثناء واحد هو المناسبات العسكرية، ومِن ثمّ اصطحبها الزوج المتيّم في مناسبة حضوره مناورة عسكرية لتظهر بجواره، ممّا أودى بحياتهما على يد القوميين الصرب عندما ارتبك الموكب نتيجة خطأ في طريق العودة بعد محاولة الاغتيال الفاشلة الأولى.. مِن بعدها تندلع حرب ضروس أودت بحياة الملايين نتيجة الاستقطاب الذي كانت تشهده أوروبا وقتها.
تنبّه المؤرخون والفلاسفة وعمالقة الفكر الاستراتيجي بعد استقراء الأحداث والوقائع لدور الصدفة وتأثيرها في تغيير مجرى التاريخ.. مِن المُؤرّخين الذين أشاروا إلى هذا جان نويل جيانيني، المؤرخ الفرنسي المعروف، الذي نوّه طبقا لموقع "histoire" الرصين إلى قوة الصدفة في التاريخ بصفة عامة وفي الحروب بصفة خاصة.. ومن الفلاسفة الألماني ليبنيتز، صاحب مقولة "غالبا ما تولد الأشياء العظيمة من الأسباب الصغيرة" التي فسرها من خلال ارتباط تاريخ الحروب في العالم ارتباطا وثيقا بالصدفة.. ومن مفكري الاستراتيجية الذين أبانوا عامل الصدفة كلاوزفيتز الذي سطر سرديته في شأنها قائلا "لا يوجد نشاط إنساني يرتبط أكثر وبشكل أساسي وعلى نحو كامل وكوني بالصدفة كالحرب".
في إحدى مراحل الحرب الأهلية الأمريكية لم يستطِع أي من طرفي النزاع أن يحسم مجرى نتائج المعارك لصالحه، لذلك طلب قائد القوات الجنوبية الجنرال روبرت إدوارد لي، من أحد ضباطه استطلاع الجناح الأيسر للقوات الشمالية الذي كان أداؤه متباطئًا خلال الأيام السابقة، وعندما هَم هذا الضابط بتنفيذ الأمر كان القائد الشمالي يجري عملية تبديل ما بين الجناحين الأيمن والأيسر، ليقدّم الضابط تقريره بوجود وارتباك صفوف العدو وخلخلة كبيرة في الجناح الأيسر، وبناءً على هذا، هاجم الجنرال لي بالقوة الرئيسية على الجناح الأيسر، بينما في حقيقة الأمر كانت قد تمّت إعادة تنظيم وتغطية نقاط ضعف القوات الشمالية، مما أفشل خطة الجنرال لي وحسم هذه الجولة لصالح قوات الشمال.
لا جدال في أنَّ الأحوال الجوية تتسبّب أحيانا كثيرة في إعاقة تنفيذ خطط القوات أثناء العمليات العسكرية.. صحيحٌ أنَّ قدرات التنبُّؤ بالجو أصبحت دقيقةً لعدة أيام نظرا لما توفره الأقمار الصناعية الآن من معلومات، لكن في حرب ممتدة لن يمكن الحصول على بيانات للأحوال الجوية لمدى مفتوح. وعلى سبيل المثال، فإنّ سقوط الأمطار بغزارة يُمكن أن يؤدي إلى إبطاء حركة القوات، والضباب الكثيف يمكن أن يوقف عمل مدفعية الميدان والقصف من الجو ويمنع تقدّم المشاة والمدرعات. وفي الأراضي الصحراوية، تستطيع عاصفة رملية حادة في الأراضي الصحراوية إلغاء أي فعل عسكري للأطراف المشتبكة على الأرض ومن الجو.
في صدفة أدت إليها الأحوال الجوية أثناء الحرب العالمية الثانية، تسبَّب الضباب الكثيف في تغيير مسار الصراع بين ألمانيا وبريطانيا، فقد كان هتلر يبني خطته على ضرب المطارات والمنشآت العسكرية فقط ليحيد القوات الجوية البريطانية من المشاركة في الحرب لحماية قواته مِن تأثيرها، تمهيدا لغزو الجزر البريطانية، لكن طائراته في هجمة كبيرة قصفت بالخطأ العاصمة لندن نتيجة سوء الرؤية التي أحدثها الضباب، وفي ردة فعل على هذا، قام الطيران البريطاني بهجمة مماثلة على برلين، مما أوجد مسلكًا آخر في النزاع بينهما، حينما أمر هتلر كرد فعل انتقامي بضربات مكثفة ومستمرة على لندن مباشرة، وينجح بالفعل في تدمير أجزاءٍ منها، إلا أن الطيران الملكي البريطاني ظل محافظًا على أسطوله الجوي الذي أسهم بعد ذلك في انتصار الحلفاء.
لعبت الصدفة دورا كبيرا في تأجيل انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما أدرك بعض ضباط القيادة الألمانية قبل سنة مِن حسم الحرب لصالح الحلفاء الأخطاء الفادحة، وعبثية ما يقوم به هتلر، فرتّبوا خطة أطلق عليها الاسم الرمزي "فالكيري" لاغتياله، وبالفعل وضع الكولونيل "كلاوس فون شتاوفنبرج" حقيبةً مُحمّلةً بالمتفجرات أسفل منضدة اجتماع سوف يحضره هتلر بالقرب مِن المقعد الذي سوف يجلس عليه، وأثناء الجلوس ضايقت الحقيبة الضابط الأقرب لها أثناء تحريك قدميه، فرفعها مِن مكانها ليبعدها إلى طاولة في أقصى الصالة، لينجو هتلر بالصدفة بعد انفجارها بعيدا عنه، وبعدها تم إعدام 22 جنرالًا وانتحار آخرين أشهرهم روميل، وفشلت العملية التي كانت ستنقذ البشرية من مزيد من الدمار والضحايا.