من لحظة توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، في مارس 1979، إلى اللحظة الراهنة مر قطار التطبيع بمحطات كثيرة، تغيّرت فيها السياقات العربية والإقليمية والدولية.
ومن ذلك أيضا تغير النظر لقضية فلسطين من قضية لا يمكن حسمها إلا عسكريا، إلى قضية يمكن أن تحلّ بالقواعد السياسية والمواثيق الدولية، وهذا التغير الجذري في تأصيل قضية فلسطين أدى تاليا إلى شيوع مرونة عربية وإقليمية في التعامل مع مسألة التطبيع، تبعا للتجاور القائم بين قضية فلسطين ومسألة تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية.
منذ أكثر من عقد من الزمن، تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية لصالح الاهتمام بالقضايا القُطرية المتسارعة، خاصة بعد استتباعات الربيع العربي وما أدى إليه من أزمات ومشاكل وتحديات جديدة. انكفأت الأقطار العربية على مشاكلها، وأصبحت تزنُ المشهد الإقليمي والدولي بمسطرة مصالحها أو على الأقل بمعايير النجاة من التحديات الإرهابية والاقتصادية التي أصبحت تلقي بظلالها على انشغالات العرب.
إذا جاز لنا أن نرسم خريطة لمسار التطبيع العربي فإننا سنتوصل إلى أن الكثير من الأقطار العربية والإسلامية أصبحت تقرأ مستقبل القضية الفلسطينية من زاويتين: الأولى تنبع من يقين مفاده أن الخطابات الرنانة وشعارات إلقاء إسرائيل في البحر (التي سادت كثيرا في الستينات والسبعينات) لم تعد مفيدة في ظل التباين الواضح في موازين القوى الاقتصادية والعسكرية، بل إن تلك الشعارات زادت في تعميق وضع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. أما الزاوية الثانية فتنبع بدورها من يقين آخر يقوم على أنه بالإمكان الضغط على إسرائيل لتحصيل الحقوق الفلسطينية عبر المسارات الدبلوماسية والحقوقية والمواثيق الدولية، وهذا الضغط لا يتناقضُ مع الدخول مع إسرائيل في علاقات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية، تغتنمُ ما يعد به المستقبل من فرص وإمكانيات.
لم تعد إسرائيل "عدوًا" مثلما كانت تردد الأدبيات القومية واليسارية في السبعينات، بل تحولت إلى "شريك" في التنمية والاقتصاد، وهذا لا يعني أيضا أن الأقطار العربية التي رسمت علاقات دبلوماسية جديدة مع إسرائيل لم تعد معنية بفلسطين أو باجتراح حلول وتسويات تحسن الواقع الفلسطيني وتخفف من وطأة الاحتلال.
هنا يمكنُ تمييز موقفين كبيرين من مسألة التطبيع. موقف أول تتبناه أقطار خليجية عديدة مع الأردن والمغرب ومصر والسودان، يقوم على مقاربة تنطلق أولا من مبادرة السلام العربية التي أعلنها العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز في العام 2002، ثم تعززت في العام 2018 مع زيارة بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك، إلى سلطنة عمان، حين شدد البيان الصادر بعد الزيارة إلى أن الطرفين "بحثا سبل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط وناقشا عددا من القضايا ذات الاهتمام المشترك والتي تهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط". هذا الموقف المتبني لفكرة التطبيع يؤمن بأنه يمكن الوصول إلى حالة من السلام في المنطقة وتحريك الانسداد الذي تعيشه القضية الفلسطينية، من خلال مسارات دبلوماسية وسياسية تعترف بإسرائيل شريكا في مسائل الأمن والتكنولوجيا الاقتصاد، وتضغط عليها دبلوماسيا فيما يتصل بالحقوق الفلسطينية.
أما الموقف الثاني، فتتبناه بعض الأقطار العربية التي مازالت ترى في "التطبيع خطًا أحمر"، انطلاقا من قراءة أيديولوجية للقضية الفلسطينية مازالت تستحضر الأدبيات السياسية التي كانت سائدة في العقود الماضية. على أن هذا الموقف مازال يرابطُ في رفض أي اعتراف بإسرائيل، إلا أنه لا يقدمُ حلا واقعيا وقابلًا للتطبيق للقضية الفلسطينية.
المفارقة التي يمكن تبينها اليوم، تتمثل في أن بعض القوى السياسية والأقطار العربية تتبنى خيار التطبيع، من منطلقات نفعية انتهازية، لا تأخذ من التطبيع إلا ما يفيد سرديتها الأيديولوجية، والمثير أن بعض هذه الأقطار والتيارات السياسية تقفز بين الموقفين المشار إليهما، أي خيار التطبيع وبين خيار رفضه، محاولة جني خراج الموقفين.
المثال الأقرب على هذا القفز على حبال المواقف هو ما رشح من مواقف في الأيام الأخيرة على خلفية توقيع لبنان وإسرائيل اتفاق ترسيم حدودهما البحرية، وهو اتفاق حسم المناطق الاقتصادية الخاصة بكل بلد في مياه البحر الأبيض المتوسط، وسمح لإسرائيل بالبدء في استخراج الغاز من حقل كاريش، مثلما وفر للبنان أملا في الخروج من أزمته الاقتصادية، لكن حزب الله، الذي يهيمن على الدولة وعلى قرارها، اعتبر على لسان أمينه العام حسن نصر الله، أن الاتفاق "انتصار كبير للبنان وشعبه وللمقاومة"، رغم نفي الرئيس اللبناني ميشال عون أن يكون للاتفاق أي أبعاد سياسية، واصفا الاتفاق بأنه عمل تقني ليس له أي مفاعيل تتناقض مع السياسة الخارجية للبنان في علاقاته مع الدول"، ورغم تأكيد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على أن "الاتفاق يعود بنفس القدر من الفائدة لكل من إسرائيل ولبنان، حيث يعزز المصالح الاقتصادية والأمنية لإسرائيل، وفي نفس الوقت يشجع الاستثمار الأجنبي الذي يحتاج إليه الشعب اللبناني".
في السياق نفسه من السعي إلى "استثمار" التطبيع سرا مع الترويج لرفضه علنا، هو ما أعلنته قطر مؤخرا، على خلفية تنظيمها لكأس العالم، من كون "موقفها من التطبيع لم يتغير ولا يزال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحل القضية الفلسطينية، بما في ذلك حل الدولتين وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومبادرة السلام العربية"، خاصة بعد إعلان الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) التوصل إلى اتفاق بشأن تشغيل رحلات طيران مستأجرة مباشرة مؤقتاً بين تل أبيب والدوحة من قبل شركة طيران حاصلة على حقوق هبوط مسبقة في قطر طوال فترة بطولة كأس العالم 2022.
علما وأن قطر ترتبط بعلاقات تجارية واقتصادية مع إسرائيل منذ العام 1996، ورغم الصلات القطرية مع حركة حماس إلا أنها حافظت على حبل ود دافئ مع دولة إسرائيل، حيث زارها الرئيس الأسبق شيمون بيريز في العام 1996، كما جدد الزيارة في العام 2007. وفي يناير 2008 التقى ايهودا باراك وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، برئيس الوزراء القطري الأسبق عبدالله بن خليفة آل ثاني في سويسرا على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي، وسعت الدوحة إلى إبقاء هذه المحادثات في طي السرية، وواصلت إلقاء شعاراتها الرافضة للسياسة الإسرائيلية والداعمة لحركة حماس.
ما يمكن استخلاصه من هذه المواقف هو أن بعض الأقطار التي تدعي رفضها لمسار التطبيع، هي الأطراف التي تستثمر القضية الفلسطينية أكثر من غيرها، حين تحاول أن تسير في مسارين متوازيين ومتناقضين: مسار يرفعُ اللاءات الثلاث القديمة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) ومسار آخر يدخل في علاقات سرية مع إسرائيل تتقصد التقاط بعض المنافع الاقتصادية أو السياسية، ولعل المسار الأول، وهو مسار معلن، يوجه لدغدغة مشاعر الجماهير العربية،والمسار الثاني وهو مسار مضمر وسري، تقتضيه الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
نحن إذن إزاء نوعين من التطبيع، تطبيع كاذب ومخاتل ومخادع، التي لا ترى في القضية الفلسطينية إلا ميدانا للمزايدة السياسية. في مقابل تطبيع صادق انطلق من قراءة هادئة ورصينة للوقائع السياسية وآمن بأن حل القضية الفلسطينية لا يحصل بالشعارات المتشنجة والشعبوية، بل بالعمل السياسي والدبلوماسي الرصين.