منذ أكثر من عقد والعلاقة بين الصين والولايات المتحدة تزداد توترا، خصوصا مع لجوء كلتيهما إلى إجراءات عقابية ضد بعضهما البعض. ولكن هل حُلَّت المشاكل بين الدول يوما دونما حوار ومفاوضات؟.. هذا ما ستوفره قمة بالي للدول العشرين الكبرى المقررة في 15 نوفمبر الجاري.

صحيح أن التشدد واستعراض القوة يسبقان المفاوضات دائما، حتى أثناء الحروب، فأشد المعارك تدور رحاها في الساعات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، ولكن الوضع العالمي المأزوم حاليا لا يتحمل مزيدا من التأزيم بين الدولتين العظميين.

هناك الآن فرصة للحوار في قمة مجموعة العشرين، وهي تجمُّعٌ لأكبر الاقتصادات في العالم، المقرر عقدها في بالي في إندونيسيا منتصف الشهر الجاري. فهل يستغلها زعيما الدولتين لبدء مرحلة جديدة؟ أم أنهما مصممان على سلوك طريق المواجهة؟.

لم يلتقِ الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بنظيره الصيني، شي جين بينغ، منذ تسلمه منصبه قبل عامين تقريبا. وإن كان هناك ما يتفق عليه الرئيسان الأميركيان، جو بايدن ودونالد ترامب، ومعهما حزباهما، الديمقراطي والجمهوري، فهو الموقف من الصين.

بايدن اتخذ مواقف وإجراءات أكثر تشددا مع الصين، مما اتخذه سلفه ترامب، وما لم تُلغَ تلك الإجراءات، أو تُخفَّف، خصوصا المتعلقة بحرمان الصين من التكنولوجيا الأميركية المتطورة والنفاذ إلى الأسواق الأميركية، فإن الرئيس الصيني لن يتزحزح عن موقفه الحالي.

وإضافة إلى المشاكل الاقتصادية المعقدة بين الدولتين، هناك الآن مشكلة تايوان التي كانت راكدة لخمسين عاما، فحرَّكَتها زيارة نانسي بيلوسي، الصيف الماضي إلى الجزيرة، والتي جاءت في وقت عالمي مأزوم، تزامن مع تدهورِ العلاقات الأميركية الصينية، واقترابِ موعد التجديد لولاية ثالثة للرئيس الصيني، واشتدادِ المعارك بين روسيا وأوكرانيا، وفرضِ الدول الغربية عقوبات صارمة على روسيا، ووقوفِ الصين على الحياد في الحرب.

رئيس مجلس النواب الجمهوري المرتقب، كفين ماكارثي، يعتزم هو الآخر أن يزور تايوان، ما يعني أن الأزمة سوف تتجدد.

يبدو أن الولايات المتحدة تريد اختبار صبر الصين، ودفعها إلى التنازل، فالمهم بالنسبة للصين هو التطور الاقتصادي والحصول على التكنولوجيا الأميركية، وحصةٍ أكبر من السوق الأميركية المهمة جدا للاقتصاد الصيني، إذ كانت المحركَ الأساسي للنهضة الصينية الحديثة.

سوف يحاول الأميركيون أن يتحدثوا مع الصينين حول الأمن الغذائي وحقوق الملكية والتجارة غير الشرعية وحقوق الإنسان، والغزو الروسي لأوكرانيا وموقف الصين منه، وبالتأكيد القضية الأهم عالميا، ألا وهي التغير المناخي، الذي يهم كل دول العالم، باعتراف الجميع، رغم اختلاف المقاربات حول كيفية معالجته وأين يجب أن تكون البداية لكل دولة، ومتى.

غير أن أولويات الصينيين مختلفة عن الأميركيين، فالصين تريد أن تتحدث عن القيود التي فرضتها واشنطن على اقتناء التكنولوجيا الأميركية، وعن مبدأ "الصين الواحدة" المتعلق بتايوان، الذي تأسست عليه العلاقة بين البلدين في سبعينيات القرن الماضي، والذي أقرت به الولايات المتحدة، بل حتى تايوان نفسها، سابقا على الأقل، تؤمن بمبدأ الصين الواحدة، لكن واشنطن ترى أن الوضع الحالي، وهو بقاء تايوان محكومة ذاتيا، يجب أن يستمر ولا يمكن تغييره بالقوة، التي لا تستبعدها الصين.

وتريد أيضا التحدث عن حقها في السيطرة على بحر الصين الجنوبي، لكن أهم ما تريد الصين بحثه هو الإجراءات الأمريكية المناهضة لاكتساب الصين التقنية الأميركية، والقيود المفروضة على الشركات الصينية العاملة في الولايات المتحدة ونفاذ الصين إلى الأسواق الأميركية، وكل القضايا الأخرى هي مجرد أوراق للضغط على الموقف الأميركي لتقديم تنازلات في القضايا الاقتصادية والتكنولوجية. والأمر نفسه ينطبق على الموقف الأميركي، فهناك قضايا تُبحث مع الصين من أجل الحصول على تنازلات مقابل التخلي عنها.

لا تجد الصين والولايات المتحدة صعوبة في التوصل إلى اتفاق مبدئي حول الأمن الغذائي وحقوق الملكية الفكرية والتجارة غير القانونية المتعلقة بها، وإن كانت هناك صعوبات تتعلق بالالتزام بتطبيق ما يتفق عليه، إذ تتخلله عقبات، وتثار حوله خلافات، خصوصا بين الجهات الرقابية. لكن التنافس الاقتصادي بين البلدين سيكون المسألة الأكثر تعقيدا، على الأقل استراتيجيا، وهو في الحقيقة السبب الرئيسي الذي أدى إلى تأزيم العلاقة بينهما.

هناك مؤشرات على أن الولايات المتحدة مستعدة للتوصل إلى اتفاق حول التجارة والنفاذ الصيني للأسواق الأميركية، لكن هذا الأمر المعقد لن يحسم في بالي، بل سيوكل إلى فرق متخصصة تعكف على التوصل إلى صيغة مُرْضِية للطرفين.

وقد أعلن الرئيس بايدن أنه سيبحث مع الرئيسي الصيني، شي جين بينغ، القضايا الأكثر أهمية بالنسبة للبلدين، والخطوط الحمراء لكل منها، التي لابد من التفاهم حولها.

أما فيما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا، وهذه القضية مهمة بالنسبة للأميركيين، الذين يريدون من الصين موقفا واضحا منها، فإن الصين لم تؤيد الغزو، بل اعترضت عليه، ولكن فقط في اللقاءات الثنائية بين زعيمي البلدين، وهذا ما اعترف به الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، عندما قال إن للصين رؤية مختلفة حول الموضوع.

سوف تضع الولايات المتحدة الصين عند مسؤولياتها تجاه القانون الدولي، فهناك انتهاك لسيادة دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، وأن الصين لم تدنه علنا، ولم تصوت ضده في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يمنعها هذا الامر من تطوير علاقاتها مع روسيا، التي اعتمدت اقتصاديا على الصين بالدرجة الأولى، خصوصا بعد فرض عقوبات اقتصادية صارمة عليها من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية وباقي الدول الغربية.

التغير المناخي نقطة إشكالية، وعلى الرغم من أن الصين تدرك تماما بأن نشاطاتها الاقتصادية هي الأكثر تلويثا للبيئة حاليا، لكنها ترى أن مسؤولية أكبر تقع على الدول الصناعية الغربية باعتبار أنها سبقت الصين إلى تلويث البيئة واستفادت منها وراكمت الثروات نتيجة لذلك، وعليها تقع مسؤولية مكافحة التلوث.

سوف تطرح الصين في المباحثات حول البيئة مواقف الولايات المتحدة السابقة من التغير المناخي، وانسحابها من مقررات مؤتمري كيوتو وباريس، لكن الأمريكيين سيقولون إن إدارة بايدن ملتزمة بمقررات مؤتمرات المناخ الأخيرة، وإنها اتخذت إجراءات عملية لوقف تلويث البيئة.

وهذا صحيح، لكن موقف الولايات المتحدة في ظل الحكومات الجمهورية لجورج بوش ودونالد ترامب، لا يمكن أن يكون قدوة للدول الأخرى

الاحترار الكوني مشكلة لكل دول العالم، فما بالك بالملوث الأكبر وهو الصين.

غير أن الالتزام بمقررات مؤتمرات المناخ الدولية يعني أن على الصين أن تقدم تضحيات على حساب نموها الاقتصادي، وتتصدر دول العالم في تخفيض التلوث واتخاذ إجراءات عاجلة للحد من انبعاثات الكربون، وهي الأعلى بين دول العالم حاليا، بل تفوق على الولايات المتحدة مرتين ونصف.

ويبلغ حجم الانبعاثات الكربونية الصينية 11,680.42 مليون طن، مقارنة مع 4,535.30 مليون طن للولايات المتحدة، و2,411.73 للهند، و1,674.32 لروسيا، و1,061.77 لليابان و690.24 لإيران و636.77 لألمانيا، وفق ما نشره موقع (بيانات سكان العالم).

لا شك أن مؤتمر بالي سيكون فرصة ثمينة لبدء الحوار، أو على الأقل إنهاء مرحلة القطيعة بينهما، التي لا تخدم أيا منهما، لكنها ساهمت في توضيح المواقف، والبرهنة على ألا بديل عن الحوار والتعاون.

سيطرح الصينيون مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لهم، وهي أنهم قلقون من أن أي اتفاق مع إدارة بايدن لن يُلزِم الإدارة التي تليه.

لكن الأميركيين سيردون على ذلك بالقول إن المصلحة الأميركية ستكون أولوية بالنسبة للحزبين الديمقراطي الجمهوري، لذلك فإن أي اتفاق يخدم المصلحة الأميركية سوف يبقى معمولا به.

من غير المتوقع أن يكون هناك تغيرا في الموقفين الأميركي والصيني بخصوص تايوان، وهذ المسألة سوف تبقى عالقة رغم الاتفاق المبدئي على أن الصين واحدة.

الأميركيون قلقون من تعزيز موقع الرئيس شي في السلطة، ونهجه المناهض للولايات المتحدة، والذي يرونه نهجا فرديا، مختلفا عن أسلوب الحكم الجماعي، الذي كان يحصل في الحزب الشيوعي الصيني، خصوصا بعد انتخاب الحزب قيادة موالية له شخصيا، والإهانة التي تعرض لها الرئيس السابق، هو جينتاو، عندما أُخْرِج من قاعة المؤتمر أمام كاميرات التلفزة العالمية، والذي يعتقد مراقبون بأنه إجراء مقصود يهدف إلى إيصال رسالة للعالم، مفادها أن هناك زعيما أوحدَ للصين، هو شي جينبينغ. كما أن انتخابه المتوقع في مارس لمنصب الرئيس لفترة رئاسية ثالثة، سوف يدفعه أكثر للتركيز على تعزيز موقعه السياسي وترسيخ أيديولوجيته في الحكم، أكثر من الاهتمام بالانفتاح على العالم، والتنمية الاقتصادية التي شغلت فترة حكم سلفه، هو جينتاو.

ومهما يكن اعتراض الأمريكيين على القيادة الصينية أو سلطة الرئيس شي، وهذا شأن صيني في المقام الأول، فإنهم سيحتاجون لأن يتعاملوا معه، وفق ما تمليه عليهم المصالح المشتركة للبلدين، والتي لا تُخدَم مطلقا بالمقاطعة والعداء، فالحوار كان دائما السبيل لحل المشاكل وقد سلكه الامريكيون مع الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة، وهم يعلمون أن العالم لم يعد قادرا على تحمل حرب باردة أخرى مع الصين. قمة بالي ستكون فرصة تأريخية لبدء الحوار، وهذا ما سيحصل على الأرجح.