دعوة

منذ سنوات تلقّيت دعوة من القائمين على أمر المجلس الأعلى للثقافة في مصر الرحيمة، للمشاركة في فعاليات ثقافية عن بُعد، عوضاً عن النشاطات التقليدية، التي اعتاد هذا المجلس التنويري أن يقوم بتنظيمها منذ عقود طويلة، وحرص دوماً على دعوتي إليها، دون أن تمكّنني ظروفي الدنيوية من تلبيتها دوماً، فأُحرم من الحضور في حرم أعزّاء كانوا لأمثالي دوماً عزاء، لأغترب عن قبلة الجنس البشري، التي كانت منذ التكوين، للغرباء بمثابة ملاذ؛ فلا أجد ما يمكن أن ينوب عنّي في مثل هذه الندوات سوى الشذرات. ولكن.. لماذا الشذرات، وليس قصّة قصيرة، أو مقتطفاً من رواية، على طريقة التقليد الشائع في أوروبا، الذي كان لي إفيوناً أدمنته طوال مقامي بها منذ نصف قرن، لأحلّ بفضله ضيفاً في رحاب كل مدن القارّة الأوروبيّة تقريباً، فأتحفّظ في اعتماده هنا لهذا السبب بالذّات؟

فالسرّ يكمن في التوق إلى الحقيقة، التي كثيراً ما نكتشف كيف تتبخّر في سيرورة العملية السردية، لا بسبب عدائها الفطري للغة وحسب، ولكن بسبب احتقارها للإسهاب، القرين دوماً للمرويّ، واشمئزازها من كل ما متّ بصلة للتفصيل. لأن ما هو التفصيل إن لم يكن ترجمةً لوصيّة فولتير: "المملّ هو أن نقول كل شيء"؟

المملّ؟

ما هو المملّ إن لم يكن مسلك لسانٍ يروقه أن يتلكّأ، وهو يسرد مرويّته، فيلوك في مسيره الأفعال، ويتلذّذ بمضغ النعوت، محاولاً أن يتلاعب بالكلم، ليسوّق المعزوفة الشعرية، بديلاً للحجّة الغيبيّة، فتغترب الحقيقة باغتراب الحُجّة. ألم تعبّر تلك الصبيّة العبرانيّة عن هذا المأزق، عندما سألها عابر السبيل أثناء وقوفها فوق فوّهة البئر: "كيف أجد الطريق المؤدّي إلى المدينة؟"، فلقّنته درساً أخلاقيّاً قاسياً عندما انتهرته قائلةً: "لا يحسن بالرجل أن يسهب في القول في حضرة المرأة!"، وعندما استفهم عن السبيل للخروج من الورطة، أجابته بابتسارٍ قاطع: "يكفي أن تقول: المدينة!"

كان ذاك أول حرف في مديح الاختزال. في مديح الشذرة، وهو يقين مستعارٌ من صرامة انضباطيّة، ورثها يوليوس قيصر عن أهل سبارطة، عندما اعتمد حرف الـ"أي"، كبديل لجملة كاملة للتعبير عن الموافقة.

كل هذه المؤهّلات اختزنتها الشذرة في قدرتها على احتواء الامتلاء، بإحكام العبارة الوجدانية، المسكونة بروح شعرية، وذخيرة حكَميّة، في جملة مزمومة، تضيق بمنطق هو، دوماً طاقة غنائية، لاقتناص حقيقة غيبيّة، واستحضارها في حضرة ذلك الحضور، الذي تلعب فيه اللغة دور المتاهة، سيّما في ذلك البُعد، الذي تحترف فيه ما يسمّيه النحاة استطراداً. والشذرة وحدها لا تستطرد، ولكنّها تحجم، ترتدّ، تنكفئ عمقاً، لتستجلي موقعاً لها في الوطن الوحيد، الذي يستضيف الحقيقة، وهو: ملكوت الروح!

ففي هذا البرزخ فقط يتقاطع القطبان الأبديّان، كأبوين شرعيين لأيّ مبدأ إبداعي، كما الحال مع الجمال في هوسه بالحرية، ليتبادلا اغتراباً قدسيّاً، يؤكّدان به حضورهما في المفهوم، المسكون بذخيرة جديرة ببعث حقيقة هي في الصفقة رأسمال مستعار من غيوب عدم. فالمأزق في عجزنا عن قول ما نريد أن نقول دوماً. والسبب؟ السبب يكمن في لؤم اللسان، المترجم في حرف إغواءٍ يسكن اللغة. ولهذا نسرح، بل نشطح، كلّما شئنا أن نوضّح. اللغة تستدرجنا إلى رحابٍ بلا ضفاف، فنزخرف، وننقش، ونبهرج، كأننا بصدد تجسيم لوحة، لينتهي بنا المطاف، في حملة التوصيف، والتصنيف، إلى التزييف، لنضيع في وضعٍ كان يمكن أن يحصّننا فيما لو حاولنا استطلاع الواقع، لأن الغاية هي استجلاء تلك الحقيقة التي تسكن هذا الواقع، وهو ما عبّرتْ عنه الصبيّة العبرانيّة بوصيّتها التي لا تبدو أقسى في بُعدها الأخلاقي، منها في بعدها الوجودي، فيما لو أحسنّا استنطاقها كما يجب. فإذا كانت الغاية هي استكشاف الوجهة المؤدية إلى المدينة، أفلا يبدو ابتذالاً معيباً، بل سفسطة منكرة، الخوض في أوحال اللغو على ذلك النحو الذي لا يعفي من دنَس، كما جرى في عضلة عابر السبيل، سيّما بهوية انتمائه إلى ملّة الغرباء؟

فكلمة واحدة تكفي: المدينة!

والكلمة هنا ليست كلمة، ولكنّها حجّة. حُجّة تختزل حواراً. تختزل جدلاً. تختزل حساباً. تختزل معادلةً. تختزل ملاحقةً. تختزل خصاماً مدعوّاً بحرف كل لغو. والكلمة هنا حسم. حسمٌ يجير من سوء الفهم. الكلمة هنا أكثر من جملة، وأكبر من إفادة، وأعظم شأناً من قفل الباب في وجه الملل، ولكنها وصيّة. والوصيّة هو ما تراهن عليه الشذرة، في اعتناقها لدين الاختزال.

الشذرة، كوصيّة، تعريةٌ. تعرية لتلك الذخيرة المحتجبة وراء قناع الواقع، التي كثيراً ما نحدسها روحاً، ولكن هيهات أن نعيها حرفاً.

لقد كان عالمنا حسن الظنّ دائماً بالحوار في استدراج هذه الذخيرة، كي تقول كلمتها في واقع اللغة. وهو حسن ظنٍّ مستعارٍ من نزعة كلاسيكيّة نصّبت الجدل حَكَماً على الواقع، وفوّضته قياساً لاستخراج الذخيرة من بطن العدم، استلهاماً لطريقة أفلاطون التي لقّنها لبطل ملحمته سقراط، الذي احترف الحوار كسبيلٍ لتوليد الحقيقة من البعد الضائع، كما تقوم القابلة بتوليد الجنين من جوف الأمّ. ولكن حسن الظنّ بالجدل لم يشفع لسقراط حكم الإعدام، الذي استصدره محفل عقلاء أثينا بحقّه، بدعوى إفساد الجيل بذخيرة هذا الجدل، ممّا يعني أن الكشف ينطوي على قصاص دوماً. لأن الكشف بطبيعته خطر، بما هو انتهاكٌ لحرمة. ولا وجود في الوجود لشيء أحقّ بوسام الإحرام مثل الحقيقة. وكونها حرم، كونها تحريم ككل قدس أقداس، فمن الطبيعي أن تحترف الحُجُب. من الطبيعي أن يكون لها الخفاء سكناً. ولذا لا تستجيب لنداء الرؤية، بقدر ما تستسلم لنداء الرؤيا. ولهذا السبب تضيق بها العبارة، بقدر ما تتسع الرؤية، بوصيّة النفّري، لأنها سليلة الرؤيا بطبيعتها. والدليل يسوّقه لنا النفّري نفسه، عندما يضيف لهذه الشذرة الفذّة شذرة أخرى تستجليها وهي: "العبارة سِترٌّ، فكيف ما ندبت إليه؟". العبارة حقّاً سترٌ، حجبٌ. العبارة دوماً اغتراب، بدليل أننا لا نفلح في قول ما نريد أن نقول أبداً. فالعبارة خُلقت لتخذلنا. اللغة وُجدت لا لتكون لنا برهاناً على وجود، لا لتكون لنا وجوداً، ولكنها وُجدت لتنفينا عن الوجود. وأن تنفينا عن الوجود يعني أن تنفينا عن حقيقتنا. ولذا فالعبارة أعجز من أن تعترف. العبارة أضيق من أن تُخبر. العبارة خُلقت لتخفي، لا لتُظهر. ولهذا السبب كان الاحتفاء بالظلّ، بالإيماء، بما أسماه الروذباري الإشارة. ففي استنطاق ذخيرة الإشارة فقط قد نطمع في استطلاع ما جاهد الوجود لإخفائه عنّا.

فاللغة لا تكتفي بأن تضيق بالرؤية، كما عند النفّري، ولكنها لا تستحي أن تعبّر عن هذا الضيق، هَولاً من اتّساع الرؤية، فكيف الملاذ في حال اتّساع الرؤيا، بدل الرؤية؟ ألهذا السبب تحتال العبارة دوماً، تستجير بتلابيب الشّعر، كي تنتدبه ترجماناً لسرّها، بعد أن تكون قد ضمنت الحصانة المبدئية، في حرف اختزالٍ، مشفوعٍ بالحكمة؟

فالوتر المزموم وحده يستجيب. الوتر المزموم وحده ينشد. الوتر المزموم وحده حُجّة المعزوفة الوجدانية، المسكونة بذخيرة رؤيا، ليغدو، في صفقة الوجود، نذيراً. النذير الذي يتغنّي ببشارة.

الكينونة معزوفةٌ، الشذرة فيها، وترٌ مزمومٌ، يترنّم بلحن نبوءةٍ.