كان يمكن أن يكون ساجد جاويد، لولا أنه عصى أمر رئيسه، بوريس جونسون، واستقال من الحكومة احتجاجا. وكان يمكن أن يكون بن ووليس، لولا أنه أدرك أن عهده لم يحِن بعد، وأن عليه الانتظار حتى يتمكن أحدهم من إطفاء الحرائق.

وكان يمكن أن تكون ليز تراس، التي هزمت سوناك، وفازت بالجائزة الأولى، لولا أن الغرور قد تسرب إليها، فصدَّقت بأن معجزة سوف تتحقق وتخفُّض أسعار الطاقة ومعدل التضخم وأسعار الفائدة، وأن السماء سوف تمطر مالا ينهل منه الفقراء، وأن واجبها هو العناية بالأثرياء فحسب، متوهمةً بأن تنمية الاقتصاد سهلة، كسهولة وصولها إلى قمة الهرم.

لكن القدر قضى بأن يكون ريشي سوناك هو الزعيم المنقذ، عندما نفد الزعماء المحتملون، فمنهم من فاز وسقط سريعا، ومنهم من خشي السقوط فتنحى، ومنهم من تصدى ولم يفُز، ومنهم من اقترب من الفوز ونكص، ومنهم من لم يسعفه الحظ لبلوغ الترشح فرضي بالجائزة الثانية، جرمي هنت مثالا.

كان بوريس جونسون قد فاز بزعامة المحافظين عام 2019، إثر استقالة تريزا مي، التي تزعمت الحزب والحكومة بعد أن قدم ديفيد كاميرون استقالته فور إعلان نتائج استفتاء عام 2016 حول البقاء في أوروبا، التي جاءت معاكسةً لتوجهاته. ويُحسَب لجونسون أنه لم يعتمد على إرث سلفه الانتخابي، بل أجرى انتخابات مبكرة كي يكتسب الشرعية الانتخابية، وقد فاز فوزا مريحا، ليس لأن البريطانيين وثقوا به وبخططه الاقتصادية، بل لأنهم لم يثقوا بخصمه، زعيم حزب العمال السابق، جرمي كوربين، اليساري المتشدد والطوباوي الحالم بالمدينة الفاضلة.

وعندما شكَّل بوريس حكومته، جاء بوزير الداخلية في حكومة تريزا مي، ومنافسه على زعامة الحزب، ساجد جاويد، فجعله وزيرا للمال. وكان جاويد أهلا للمنصب، فهو خبير مالي شغل مناصب عليا في عدة بنوك دولية. ويعتبر وزير المال ثاني أعلى منصب في بريطانيا، بعد رئيس الوزراء، بل ربما أهم منه، فبقاء شاغل الموقع الأول في السلطة، يعتمد على خبرة شاغل الموقع الثاني، وحنكته وحسن تدبيره للاقتصاد، وخلاف ذلك، فإنه يخسر ثقة الشعب والسلطة.

وهذا ما حصل مع ليز تراس، التي جاءت بصديقها، كوازي كوارتنغ، وزيرا للمال، الذي أوهمها، أو عزز أوهامها، بأن بالإمكان إحداثَ التنمية عبر جعل الأثرياء أكثر ثراءً، وأن كل مشاكل بريطانيا سوف تُحَل نهائيا عند خفض الضرائب على الأثرياء والشركات! لكن خطة كوازي، التي سمتها الصحافة البريطانية "كاميكوازي"، مشبهةً إياها بانتحار الطيارين اليابانيين، "كاميكازي"، في الحرب العالمية الثانية، الذين جعلوا من طائراتهم قنابل متفجرة، يهبطون بها على السفن والثكنات العسكرية المعادية. وكانت خطة كوازي انتحارية فعلا إذ أطاحت بحكومة تراس خلال ستة أسابيع.

غير أن ساجد جاويد، المعتز بنفسه وخبرته، رفض أمر رئيس الوزراء بإقالة مستشاريه، وفضل الاستقالة على تنفيذ ما اعتبره أمرا مهينا له. ولولا تلك الاستقالة، لصار جاويد خليفة لجونسون. وكما جرت العادة، فقد حل وزير الخزانة، ريشي سوناك، الشخص الثاني في وزارة المال، محل جاويد.، وهذا يحصل دائما، فقد حل جون ميجور محل نايجل لوسون بعد استقالته عام 1989، وحل نورمان لامونت محل جون ميجور بعد انتخابه رئيسا للوزراء عام 1990.

كان سوناك وزيرا وديعا ومطيعا لرئيسه، وفي الوقت نفسه كان كفوءا وخلّاقا في إدارة الاقتصاد، في فترة عصيبة على بريطانيا والعالم أجمع، حينما عصف به فيروس كورونا القاتل، مصيبا الناس جميعا بالذعر، ومعطلا النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والترفيهية.

نال سوناك إعجاب نواب حزب المحافظين، وأبدى تعاطفا مع الفقراء والشركات الصغيرة، وأطلق مقولته الشهيرة "لن تواجهوا الجائحة وحدكم" فأدخل الطمأنينة في قلوب الناس، وقَرَن أقواله بأفعال، إذ بادر إلى إطلاق مشروع "فيرلو" أو (الإجازة المدفوعة الأجر)، لكل الموظفين الذين تخلت عنهم شركاتهم نتيجة تقلص نشاطاتها وتدني أرباحها، وكانت أعدادهم بمئات الآلاف.

كما أطلق مشروعا آخر لتنشيط الحركة التجارية ومساعدة المطاعم على تجاوز الأزمة، وتمكينها من البقاء رابحة حتى انقضاء الشدة، إذ قرر أن تتحمل الحكومة نصف تكاليف وجبات المطاعم المقدمة للزبائن أثناء فترة رفع الإغلاق في صيف عام 2020، وقد أحدث بذلك حركة تجارية واسعة، إذ كان الناس يصطفون بالعشرات أمام أبواب المطاعم. وقد كلفت تلك المبادرات الخزينة البريطانية مئتي مليار جنيه استرليني.

وما ساعد سوناك في إدارته الموفقة للاقتصاد، خبرته المالية الدولية، وكون زوجته، أكشاتا، مليارديرة، إذ ورثت 900 مليون دولار من ثروة أبيها، الملياردير الهندي، نارايانا ميرثي، مالك شركة "إنفوسيس" العالمية. تمتع سوناك بأخلاق رفيعة، وتواضع ملحوظ، لكن خصومه يشْكِلون عليه ولعه باقتناء الملابس والأحذية والساعات النفيسة، الأمر الذي يبعده عن الشعب.

وعلى غير المتوقع، باغت سوناك رئيسه، بوريس جونسون، بتقديم استقالته في 5 يوليو الماضي، في وقت اشتدت عليه المُلمّات لكثرة أخطائه، الأمر الذي اعتبره كثيرون انتهازيةً تسببت في استقالة جونسون، وخلق أزمة سياسية خطيرة لحزب المحافظين. لم يغفر له مؤيدو جونسون فعلته هذه، فلم يصوتوا له في محاولته الأولى لنيل زعامة الحزب، التي فازت فيها منافسته، ليز تراس، على الرغم من أن معظم نواب حزب المحافظين صوتوا له.

لكن حظ سوناك نهض مرة أخرى عندما تخبطت تراس في أسبوعها الثاني في السلطة، وأعلن وزير المال الجديد، كوازي كوارتنغ، موازنته المصغرة التي أثارت فزعا كبيرا في أسواق المال، لأن الأموال التي وهبها للأثرياء على شكل تخفيضات ضريبية، لم تكن متوفرة أصلا، بل كان عليه أن يقترضها، ما يعني أنه سوف يتسبب في رفع أسعار الفائدة ورفع معدل التضخم في آن! كانت تلك الخطة ضربة قاصمة للاقتصاد، فكيف يكون الاقتراض لتقديم الهبات للأثرياء عملا نافعا للدولة؟

أنحت تراس باللائمة على كوارتنغ، وقالت إنه هو وحده من اتخذ القرار، فأقالته وعيّنت محله جرمي هنت، الذي ألغى كل إجراءاته، ما جعل تراس تبدو هزيلة أمام الشعب البريطاني والعالم، إذ تولى هنت قيادة المشهدين السياسي والاقتصادي. ثم جاءت الضربة القاصمة الأخرى لتراس، من وزيرة الداخلية اليمينية المتشددة، سويلا بريفرمان، التي أرسلت وثائق تتعلق بالأمن عبر حسابها الألكتروني الخاص، وليس الرسمي المحصّن من الاختراق، وهذه مخالفة للضوابط الوزارية وإخلال بسرية المكاتبات الحكومية، ما اضطر تراس لإقالتها!

لم تصمد حكومة تراس في السلطة سوى 44 يوما، وكانت فترة عاصفة ومضطربة، أضرت بالاقتصاد البريطاني وموقع بريطانيا بين الدول الصناعية السبع، ما اضطر حزب المحافظين الحاكم لأن ينتخب زعيما جديدا، تكون مهمته الأساسية إصلاح الإرباك الذي تسببت به حكومة تراس، وطمأنة الأسواق المالية حول رصانة الاقتصاد البريطاني. لم يجد الحزب غير ريشي سوناك، الذي كان قد حذر من أفكار تراس، قائلا إنها ستلحق أضرارا بالاقتصاد وترفع تكاليف القروض العقارية على أصحاب المنازل من الطبقتين الوسطى والعاملة. وهذا ما حصل فعلا خلال أسبوعين من رئاستها!

المعضلة الكبرى التي يواجهها سوناك الآن، ليست إصلاح الاقتصاد وكسب ثقة الأسواق المالية فحسب، بل توحيد حزب المحافظين المنقسم إلى عدة أقسام متناحرة. فبعد انقسامه الخطير بين مؤيد ومعارض للبقاء في الاتحاد الأوروبي، الذي أطاح بحكومتي كاميرون ومي، ينقسم الحزب الآن إلى عدة مجاميع تتمحور حول مراكز للأبحاث. فهناك "مجموعة الأبحاث الأوروبية" المناهضة للانصهار في أوروبا، وهناك "مجموعة الأبحاث الشمالية"، التي تسعى لإنصاف مناطق الشمال البريطاني الفقيرة، مقارنة بالجنوب الغربي، وهناك مجموعة "محافظي الأمة الواحدة" المعتدلة التي يقودها وزير المال الأسبق، كنث كلارك، وهناك "مجموعة الحس العام"، وأخيرا وليس آخرا، مجموعة اليمين المتشدد بزعامة النائب جيكوب ريس-موغ، الذي يشار إليه تهكما بـ"عضو البرلمان عن القرن الثامن عشر" بسبب اعتقاده بأن بريطانيا يجب أن تكون قوة عظمى!

لا شك أن سوناك أقدر من غيره على قيادة المحافظين حاليا، ليس لأنه الأكثر حنكة، بل لأنه "يتمتع" بعدد أقل من الخصوم بين نواب الحزب. لكن خبرته السياسية والحكومية محدودتان، ولا تقارنان بمعرفته العميقة في الشؤون المالية. لذلك فإنه سيواجه مصاعب سياسية قد لا يتغلب عليها. أولى بوادر ضعفه السياسي برزت في يومه الأول في السلطة، عندما أعاد وزيرة الداخلية المُقالة، سويلا بيرفرمان، إلى منصبها، رغم اعترافها بمخالفة الضوابط الوزارية. إن استمر على هذه الشاكلة، فإن شعبيته الحالية في الحزب سوف تتضاءل، ومعها فرص فوزه في الانتخابات.  

المصاعب الاقتصادية ستضطر سوناك إلى رفع الضرائب أو تقليص الإنفاق، أو الاثنين معا، من أجل معالجة العجز المتوقع في موازنة الحكومة، البالغ 40 مليار جنيه. وفي خلاف ذلك، لا خيار له سوى فرض ضريبة على أرباح شركات الطاقة العملاقة كي يوفر المال المطلوب.

العلاقة الشائكة بين بريطانيا وأوروبا، خصوصا المتعلقة ببروتوكول أيرلندا الشمالية، ستكون تحديا آخر له، لأنها تنسف الهدف من مغادرة الاتحاد الأوروبي إن كانت الحدود بينهما ستبقى مفتوحة، وأن جزءا من المملكة المتحدة، وهو أيرلندا الشمالية، سيبقى فعليا جزءا من الاتحاد الأوروبي.

أصبح فوز حزب العمال في الانتخابات المقبلة المقررة في نهاية عام 2024، مرجحا، وفق استطلاعات الرأي. الكثير من المحافظين يعترفون بذلك، سرا أو علنا. مثلا، كيتي برايور، مديرة الاتصالات في حكومة تريزا مي، قالت لبي بي سي إن حزب العمال هو الفائز المرجح في الانتخابات المقبلة. الخبيرة القانونية، والنائب السابق عن حزب المحافظين، أنا سوبري، هي الأخرى أشارت في مقابلة مع بي بي سي، إلى أن زعيم حزب العمال، السير كيير ستارمر، يحظى بثقة معظم الناخبين، ودعت إلى إجراء انتخابات مبكرة.

إن صحت هذه التنبؤات، فإن فترة سوناك في الحكم لن تتعدى العامين كحد أقصى، إذا افترضنا أنه سيصمد ولا يضطر إلى إجراء انتخابات مبكرة. لكن صعوده إلى أعلى هرم السلطة خلال 7 سنوات فقط من دخوله عالم السياسة، يعتبر إنجازا كبيرا، له شخصيا، وللنظام السياسي البريطاني، الذي سمح لسليل عائلة مهاجرة من الهند أن يقود بريطانيا في فترة عصيبة.