في مساء الخميس الثامن من يناير 2004 كنت كما هي العادة في أمسية المقهى الأسبوعية حيث شلة الأصدقاء وأحاديث المساء التي تمنح ليالي الشتاء الباردة دفئا إنسانيا لا محدود.

رن الهاتف وكان على الطرف الآخر الدكتور عصام العريان عضو مجلس شورى جماعة الإخوان آنذاك.

أخبرني الرجل بنبأ رحيل مأمون الهضيبي المرشد السادس للجماعة.

في اليوم التالي شيع الهضيبي إلى مثواه الأخير في مقابر قيادات الجماعة شرقي القاهرة في جنازة شارك فيها الآلاف من أعضاء الجماعة وغيرهم من ممثلي القوى السياسية المصرية.

وفي المساء كان العزاء في مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، وكان يضم المئات من قيادات الجماعة وقوى سياسية عديدة، بل وقيادات أمنية كانت على صلة بملف نشاط الجماعة في حقب تاريخية مختلفة.

كانت قيادات الجماعة المعروفة إعلاميا أو تلك المحجوبة عن الظهور الإعلامي حاضرة في سرادق العزاء، وبدا القيادي محمود عزت بجسده النحيل كنقطة اتصال بين الطرفين بينما تولت قيادات مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة المعروفين لدى وسائل الإعلام الترحيب بالجميع.

لم يظهر مشهد العزاء أي خلافات داخل صفوف التنظيم الذي كان قد بدأ رحلة البحث عن المرشد السابع للجماعة فور وفاة الهضيبي وإعلان القيادي الطاعن في السن محمد هلال قائما بأعمال المرشد العام للجماعة.

لعدة أيام كانت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية تتحدث عن خلافات عميقة بين جناحين داخل الجماعة، جناح وصف بالجناح الإصلاحي المنفتح على المجال العام في مصر، وجناح عرف بالجناح العنيف الخارج من عباءة النظام الخاص والمنتمي فكريا وحركيا لسيد قطب.

في هذه الأثناء كنت أعد تقريرا عن خليفة الهضيبي فتوجهت إلى مقر مكتب الإرشاد بمنطقة المنيل حاملا السؤال الأهم: هل يدفع قادة النظام الخاص بأحد عناصرهم ليتولى منصب المرشد العام، أم ينجح جيل التأسيس الثاني للجماعة في الدفع بأحد رموزه؟

يرد القيادي مهدي عاكف على سؤالي: لا يوجد أي خلافات في الجماعة وكل من يتحدث عن أجنحة أو صراعات أجيال داخل التنظيم لا يعرف شيئا عن الإخوان، ثم يضيف: "وبعدين هو في حد من النظام الخاص لسه عايش غيري!!!"

بعدها أعلن محمد مهدي عاكف مرشدا عاما لجماعة الإخوان المسلمين.

جمعة النصر

في صباح يوم الجمعة 18 فبراير 2011 كان مئات الآلاف يتوافدون على ميدان التحرير احتفالا بنجاحهم في إجبار الرئيس مبارك على التنحي، كانوا فرحين بالنصر لكنهم كانوا ينظرون بحذر شديد لما ستحمله الأيام المقبلة، في الميدان اصطفت قيادات الإخوان على المنصة الرئيسية، بينما شكل شباب الجماعة الأشداء سياجا بشريا يحول دون وصول أي شخص لم يسمح القيادي بالجماعة محمد البلتاجي بدخوله، وصعوده للمنصة التي احتل صدارتها يوسف القرضاوي الذي بدا في مشهد "خومينيا" كمرشد أعلى للثورة.

أحاول التقدم مع زميلي المصور نحو المنصة فيدفعني أحد شباب الإخوان بعيدا طالبا حصولي على إذن بالدخول من "الدكتور البلتاجي".

أدفعه بيدي وأنا أرفع صوتي رافضا هذا الإجراء الذي كشف محاولات الإخوان المبكرة لاحتكار الثورة.

يأتيني البلتاجي مهدئا ليخبرني أن هذه الإجراءات بسبب "حماية المنصة" وترتيب الصعود فأرد غاضبا: يا دكتور بلتاجي إن النصر الذي أحرزه المسلمون في غزوة أحد انقلب هزيمة لأن هناك من استعجل جني الغنائم قبل انتهاء المعركة، فلا تستعجلوا.

يرفع البلتاجي صوته هذا كلام مرفوض يا أستاذ سمير نحن لا نريد غنائم ولا نسعى لأي شيء إلا لما فيه الخبر لمصر، كرر هذه العبارة بينما كان شباب التنظيم يمنعون قيادات كثر من مختلف القوى الوطنية من الوصول للمنصة.

وعلى منبر ميدان التحرير خطب القرضاوي محذرا من سرقة الثورة، وكان مرشد الجماعة محمد بديع يعلن: إن الثورة "بدأت تؤتي أكلها".
أدركت ساعتها أن القادم سيكون صعبا.

جمعة الفتنة

تدعو القوى الوطنية المصرية أواخر شهر مارس 2011 لمليونية جديدة مطلع إبريل فيتباطأ الإخوان في إعلان موقفهم من المشاركة ثم يعلنون رفضهم بل ويصفون الدعوة بأنها دعوة فتنة، وأنهم لم يستشاروا في الإعداد لها، وأنهم يرتبون للاحتفال بيوم اليتيم في ذات الموعد.

أعد تقريرا عن المليونية الجديدة وأرصد موقف الإخوان، والتقيت بالبلتاجي خارج ميدان التحرير فحاول التهرب من الإجابة ليرد ردا دبلوماسيا عن ضرورة توحيد الصفوف.

يثير تقريري حرجا بالغا للتنظيم وللبلتاجي الذي هاجمه مجموعة من شباب التيار الإسلامي أثناء تسجيله معي، فيرد البلتاجي بهجوم مضاد على شخصي ويتهمني بأنني أعد تقريرا سياسيا لا إخباريا.

في المساء التقي البلتاجي والكاتب الناصري عبد الحليم قنديل فأرد على البلتاجي هجوما بهجوم ويحاول الدكتور قنديل تهدئتي، يطلب البلتاجي الحديث معي على انفراد، وعندها تتغير لهجته ليقول وهو يحاول حبس دموعه: أنت لا تعرف مدى الأذى النفسي الذي سببته لي بهذا التقرير إن الناس في دائرتي الانتخابية هاجموني لأول مرة واتهموني بالخيانة، وأنتم لا تعرفون حجم الضغوط التي نواجهها داخل الجماعة، إن المهندس خيرت "يقصد خيرت الشاطر رجل الجماعة القوي ونائب المرشد العام" ومن معه يتحكمون في كل شيء ويجب أن تدعمنا القوى الوطنية المصرية لمواجهة هذا الجناح داخل الجماعة!!!

يثير كلام البلتاجي استغرابي فأرد مهدئا إياه هذا كلام خطير لكن عليكم إن كان هذا هو حقيقة الوضع داخل التنظيم أن تعلنوا ذلك حرصا على تماسك الجبهة الوطنية الواسعة، فيرد بابتسامته المعهودة للأسف لا يمكننا فعل ذلك.

بين لندن واسطنبول

سامحوني يا سادة إن أطلت في هذا الاستهلال، لكني أجده ضروريا قبل الدخول في محاولة فهم المشهد الإخواني الحالي، والذي تبدو فيه الجماعة وكأنها قد أصبحت عدة جماعات، فهناك جماعة في لندن يقودها إبراهيم منير وهو المتهم تاريخيا بأنه كان أحد المتعاونين مع الأمن المصري قبل نحو ستة عقود، وفي تركيا جماعة أخرى يقودها الأمين العام للجماعة في آخر نسخة تنظيمية، وهو محمود حسين الذي يبدو كموظف بيروقراطي يحفظ إرث الجماعة التنظيمي أكثر من أي قيادي آخر، وفي تركيا أيضا جماعة ثالثة تبدو كتأسيس ثالث للجماعة ويضم ثلة من قيادات شابة في أغلبها وتنتمي حركيا وتنظيميا للقيادي محمد كمال المؤسس لأحدث نسخ العنف الإخواني والذي قتل في مداهمات للأمن المصري عام 2016 هكذا تبدو الجماعة في عامها الرابع والتسعين: شراذم تنظيمية تبدو للناظر كفرق متناحرة يأكل بعضها بعضا، لكنني ورغم اتفاقي الكامل مع القائلين بأن الجماعة تعيش فترة من أصعب الفترات على المستوى التنظيمي والحركي، إلا أنني أعتقد أن الخلافات مهما بدت عميقة ستبقى مرشحة للتجاوز مع أول فرصة يتمكن التنظيم من لملمة أشلائه مرة أخرى، وما يبدو عليه جناح إبراهيم منير من محاولات للتهدئة بل ومغازلة المصريين، وما يبدو عليه جناح محمود حسين من محاولة تقديم طرح بديل ينافس مشروع التهدئة على طريقة منير، بل وما يبدو عليه المنتمون تنظيميا وحركيا لتجربة العنف الإخواني في نسخته الأحدث عل يد محمد كمال، كل هؤلاء يخفون رغبتهم في استعادة اللحمة التنظيمية للجماعة مرة أخرى مع أول بادرة "تمكين"، بل ولا أختلف كثيرا مع من يقرأون المشهد من زاوية توزيع الأدوار داخل صفوف الجماعة على أمل استمالة قطاعات من المصريين في ظل أزمة اقتصادية تعيشها مصر حاليا.

الثورة الوهمية

وربما تفيد القراءة العميقة لدعوات التظاهر في 11 نوفمبر في فهم المشهد التنظيمي للجماعة، ومحاولة استثمار الأوضاع الحالية في مصر بالتزامن مع استضافتها قمة المناخ في شرم الشيخ.

فالداعون لتلك " الثورة الوهمية " يدركون أكثر من غيرهم أنها دعوة زائفة وأن فرص نجاحها معدومة، لكنهم يريدون استثمار المناسبة لإعادة طرح أنفسهم من جانب، واستغلالها لممارسة الضغط على مصر لخدمة أهداف من يحركهم من جانب آخر.

لذلك فإن أفضل طريقة للتعامل مع تلك الدعوات هو تجاهلها وأفضل طريقة لفهم ما يحدث داخل التنظيم الإخواني حاليا هو قراءة تاريخه ومسيرته.