من الصفات التي يتسم بها السياسي عامة، والجيد بشكل خاص، هدوء الأعصاب والقدرة على ضبط النفس. فالسياسي الناجح من يفكر قبل أن يتكلم وعليه مواجهة المواقف الصعبة بإعمال العقل لإيجاد الحلول الأكثر مناسبة. بالضبط مثل الدبلوماسي عموما الذي يحافظ على الابتسامة في أكثر اللحظات توترا.

ببساطة، وكما يقول التعبير الشعبي، فالسياسي بشكل عام "دمه بارد"، أي أنه لا يتعين عليه المغالاة في رد الفعل أو فقدان السيطرة على أعصابه وإنما التفكير بعقل بارد (وهذا ما يستبدل في التعبير الشعبي بالدم).

تبقى هناك شعرة، تفصل ما بين برود الدم (أو العقل) وبين انعدام الدم (أو البجاحة). وتوصف العنجهية لدى من تأخذه العزة بالإثم في التعبير الشعبي بأنه شخص "ما عندوش دم" (أو ليس لديه دم، أي إحساس عاقل).

يلاحظ في السنوات الأخيرة أن السياسيين (معظمهم ولا نقول كلهم)، في أغلب الدول التي توصف بالديموقراطية وصاحبة الحكم الرشيد، تطورت لديهم برودة الدم إلى انعدام الدم تقريبا.

فقبل سنوات ليست بالطويلة، كان تقليد "هارا كيري" (أي قطع الأحشاء باليابانية) لا يزال يمارسه النبلاء على طريقة فرسان الساموراي الذين يتفادون الوقوع في الأسر أو التعرض للاتهام بعدم الشرف فيبقرون بطونهم بسيوفهم. وإن كانت تلك مغالاة في عقاب النفس على ما قد لا يكون خطأ الشخص نفسه تماما، إلا أنها كانت وسيلة السياسيين والشخصيات العامة والمشاهير في رد الفعل على اتهامهم بعدم الشرف – أو حتى خشية ذلك الاتهام.

لكن الآن، لم يعد أحد من السياسيين اليابانيين ولا غيرهم ينتحر كي لا تطاله فضيحة، أي فضيحة. ليس هذا فحسب، بل إن السياسيين والمشاهير أصبحوا يتبجحون في تبرير الأخطاء، وليس فقط تفادي الاعتراف بها. ولم تعد المشكلة في السياسيين والمشاهير فحسب، بل إن الجماهير العادية أصبحت في قطاع كبير منها ترى أن الإفلات بالخطأ مهارة، حتى لو كان الخطأ جرما يعاقب عليه القانون.

أما الفضائح فقد أصبحت سبيلا للشهرة، وحين يخبو نجم أحد المشاهير ربما حتى يبحث عن فضيحة كي يستعيد الاهتمام العام ويحتل العناوين. وساهمت الانترنت ومواقع التواصل في ذلك وجعلت الدم البارد يتحول إلى انعدام الدم.

لا أريد أن أزيد من المهانة التي تتعرض لها رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، التي ظلت ترفض الاعتراف بالخطأ بعدما كادت سياستها أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد البريطاني. وإن اعترفت، متأخرا وبلا معنى، قبل أيام. لكنها في البداية أقالت وزير خزانتها، الذي هو في النهاية ينفذ سياستها. ثم ألقت باللوم على رد فعل السوق، وكأن السوق أخطأ في رد فعل على اجراءات سليمة. لكن حين أصبح الكل في بريطانيا لا يريدها في المنصب، ولا حتى نواب حزبها، اضطرت للاعتراف بالخطأ لإنقاذ منصبها.

فالحقيقة أن ليز تراس تحاول، منذ ترشحها لزعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة أن "تزايد" على سلفها المستقيل بوريس جونسون. فقد كان جونسون النموذج الأمثل لكل ما سيق الإشارة إليه من تطور برودة الدم إلى انعدام الدم. بدا ذلك واضحا من سلسلة الفضائح التي لم يكترث بها، وبعضها جرائم يعاقب عليها القانون. بل إنه كان كلما تعرض لفضيحة لا يكتفي بالتبجح في الإفلات منها وإنما يرتكب ما هو أشد منها "فضائحيه".

الأخطر، أن كل ذلك جعله الاختيار الأول للشعب البريطاني فقد فاز في انتخابات عامة عام 2019 بأغلبية لم يحققها حزب المحافظين من قبل إلا نادرا، ذلك الاكتساح الانتخابي شجع بوريس جونسون على التمادي في تمزيق كل القيم والأصول، متصورا أن ذلك يزيد من شعبيته – وهو ما حدث حتى خشي حزبه من تماديه فأقاله من منصبه.

ربما لم تبدأ مسألة العنجهية والتبجح بالخطأ مع بوريس جونسون، وربما كانت من بين السياسيين في بلدان أخرى من فاقه في ذلك. لكنه كان ما احتذته ليز تراس حين خلفته. بل إنها تجاوزته في مسألة التراجع عما تقرره وتعلنه، ربما لأنها شخصية أضعف كثيرا من جونسون المثقف الذكي.

ليس ما شهدته السياسة البريطانية في السنوات الأربع الأخيرة نهاية المطاف، فالأمر لم يعد قاصرا على السياسيين في المناصب العليا فقط. بل إن المشاهير، خاصة هؤلاء الذين يلمعون فجأة بدون أصول ومهارات مميزة، من كل المشارب أصبحوا أكثر من السياسيين في انعدام الدم. ويستخدمون وسائل التواصل سريعة الانتشار عبر الانترنت في الترويج لذلك النهج وكسب المزيد من البروز والتأثير.

ولعل المثال الأبرز هو المغنية المصرية التي بالغت وسائل الإعلام في الحديث عن مشاكلها النفسية والصحية وخلافاتها العائلية. فقبل سنوات قليلة كان المشاهير، من أهل الفن وغيرهم، يتفادون وسائل الإعلام حفاظا على خصوصية أمورهم الشخصية. أما الآن، فهؤلاء المشاهير يبالغون في فضح خصوصياتهم من أجل زيادة المتابعين من بين الجمهور الذي أصبح تسليته وترفيهه تمزيق أعراض الآخرين والتوغل في أدق خصوصياتهم.

ليست تلك شفافية، ولا مصلحة عامة في أي من ذلك، إنما هو "انعدام دم" يولد المزيد من انعدام الخساسية وفقدان كل ما هو انساني – وحتى يفرغ التسلية والترفيه من معناه التقليدي الذي أبدع فنانون موهوبون من قبل لتحقيقه.