الخلاف السعودي - الأميركي الأخير، حول قرار منظمة "أوبك +" الذي صدر بداية الشهر الجاري خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، لم يكن الخلاف الأول بين الدولتين، ولن يكون الأخير بكل تأكيد.
لكن حدّة هذا الخلاف وميزته أنه كشف عن توجه جديد بدأت تتضح معالمه منذ سنوات قليلة ومداره الرئيسي، أن الكثير من الدول العربية امتلكت ناصية قرارها وأصبحت تغلب مصالحها ومصالح شعوبها، على اعتبارات أخرى تتعلق بالعلاقات التاريخية، أو مراعاة الأوضاع الداخلية لدول أخرى.
قرار أوبك أدى إلى هجوم أميركي على المملكة العربية السعودية، قام على مقاربة أميركية تعتبر أن خفض إنتاج النفط في هذه الظرفية العالمية الموسومة بالتوتر من شأنه تعزيز إيرادات روسيا، وقام الهجوم الأميركي أيضا على فكرة مفادها أن المملكة خططت لهذا القرار لاعتبارات سياسية محضة. لكن التمعن في تركز الهجوم الأميركي على السعودية ودواعيه واستتباعاته، يفرز ملمحين أساسيين: الأول متصل الأوضاع الداخلية الأميركية خاصة في ما يرتبط بالانتخابات النصفية القادمة، وهي أوضاع حددت شكل ذاك الموقف وقوته. والملمح الثاني يرتبط بتخلص بعض الدول العربية، والمملكة على رأسها، من إرث العلاقة التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة، وهي علاقة كانت توصف من البعض في عقود سابقة بأنها مشوبة بتبعية اقتصادية وسياسية.
بدأت القضية عندما قررت منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، والتي تضم 23 دولة، في الخامس من أكتوبر الجاري خفض أهداف الإنتاج في الشهر المقبل بواقع مليوني برميل يوميا. كان قرار المنظمة نابعا من قلق المنتجين للنفط من تداعيات انخفاض الطلب، وبناء على ذلك قدرت الدول الأعضاء في المنظمة وجود ضرورة للحد من تقلبات الأسواق والحفاظ على مستوى مستقر للأسعار في حدود 100 دولار للبرميل، وكان واضحا أن دولا عربية عديدة ستتحملُ تبعات الخفض، لكنها في المقابل ستستفيد من زيادة الأسعار. وخلال الأيام السابقة لصدور القرار يوم 5 أكتوبر، أجرت الولايات المتحدة اتصالات مكثفة مع العديد من الدول الصديقة لدفعها إلى التراجع عن هذا الخيار، لكن المنظمة انتصرت لفكرة خفض الإنتاج انطلاقا من حسابات متداخلة جعلت الدول الأعضاء في المنظمة تستجيب لمصالحها أكثر من استجابتها للضغوط الأميركية، على ذلك عُدَّ ذلك القرار تحديا لانتظارات حكومة الرئيس الأميركي جو بايدن.
الملاحظة الأولى التي يمكن التقاطها من الموقف الأميركي هي أن واشنطن "صوّبت" سهام نقدها على المملكة العربية السعودية دون غيرها من دول المنظمة، واعتبرت أن الرياض هي من دفعت بقية الدول الأعضاء على اتخاذ ذلك القرار. جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي قال الخميس الماضي إن "أكثر من دولة في أوبك شعرت بأن السعودية تجبرها على تأييد قرار خفض الإنتاج". وهو اتهام يمكن تقويضه بمجرد مطالعة تصريحات الكثير من المسؤولين الاقتصاديين في أكثر من دولة، فضلا عن تأكيدات الأمين العام لمنظمة أوبك هيثم الغيص.
الملاحظة الثانية المشتقة من الموقف الأميركي الذي خص السعودية بالغضب الرسمي، هو أنه في حقيقته غضب "ديمقراطي" أي أنه غضب نابع من مسؤولي الحزب الديمقراطي، حيث اعتبر بعض النواب الديمقراطيين (توم مالينوفسكي من نيوجيرسي، وشون كاستن من إلينوي، وسوزان وايلد من ولاية بنسلفانيا) في بيان أصدروه منذ أسبوعين أن "التخفيض الكبير من قبل السعودية والإمارات في إنتاج النفط، على الرغم من انفتاح الرئيس جو بايدن على كلا البلدين في الأشهر الأخيرة، هو عمل عدائي ضد الولايات المتحدة، وإشارة واضحة إلى أنهما اختارا الوقوف إلى جانب روسيا في حربها ضد أوكرانيا". ولتبين أن الغضب الأميركي "ديمقراطي" بالأساس يكفي أن نطّلع على مواقف بعض النواب الجمهوريين، لنتبين أن الجمهوريين يرون الحدث من زاوية مختلفة جدا عن زاوية النظر الديمقراطية. النائب الجمهوري دان كرينشو- على سبيل الذكر لا الحصر- أكد أن "إدارة بايدن تتعاون مع إيران من أجل إعادة الاتفاق النووي السخيف، ماذا كنا نتوقع؟ فالعلاقة مع السعودية هي علاقة سياسية واقعية وهي قائمة على المصالح المشتركة. إذا أفسدت هذا التوازن، فسيتفاعلون مع ذلك، وهم بالفعل يفعلون ذلك".
التباين بين الموقف الديمقراطي والموقف الجمهوري على أهميته، يظهر بُعديْن في غاية الخطورة. البعد الأول يشير إلى أن الاختلاف في تقييم قرار أوبك يوحي بوجود حسابات داخلية مختلفة، وجلها نابع من التكتيكات التي تسبقُ الانتخابات النصفية المزمع تنظيمها في شهر نوفمبر المقبل، وهي انتخابات ستوفر فرصة للناخبين لتقييم فترة حكم الرئيس جو بايدن وستلقي نتائجها بظلالها على بقية عهدته الرئاسية وعلى الحياة السياسية الأميركية بشكل عام في العامين المقبلين. أما البعد الثاني، وهو بعد يخفي مفارقة غريبة، فيتمثل في أن كلا الطرفين يرى القرار الذي اتخذته المنظمة، (والمملكة العربية السعودية باعتبارها الطرف المستهدف بالهجوم) على أنه قرار نابع من دواع خارجية: خدمة روسيا في حربها على أوكرانيا وفق التقييم الديمقراطي، أو اعتباره ردا على نقد تعاون الولايات المتحدة مع إيران بالنسبة للطرف الجمهوري. وفي كلا التقييمين تغييب لإرادة الدول التي صوتت على القرار، وإلغاء لحقها الشرعي في البحث عن مصالحها من خلال اتخاذ خيار التخفيض في الإنتاج.
الثابتُ أن دول منظمة أوبك عندما اتخذت هذا القرار، بالإجماع، ورغم كل الضغوط السياسية التي سلطت عليها، كانت تقرأ القرار من زاوية المصالح الوطنية لتلك الدول، ولم تعر أي أهمية للحسابات الداخلية الأميركية، أو لخدمة روسيا في حربها على أوكرانيا كما أشاعت المقاربة الديمقراطية الأميركية. صحيح أن الحرب الروسية على أوكرانيا أثرت في الاقتصاد العالمي، وفي التبادل العالمي للمحروقات، لكن ذلك القرار كان نابعا بالأساس من المصالح الوطنية للدول المصدرة للنفط. وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود، أكد هذا المنحى عندما قال "نحن معنيون أولاً وقبل كل شيء بمصالح المملكة العربية السعودية"، وأضاف أن المملكة لديها "مصلحة في أن تكون جزءًا من نمو الاقتصاد العالمي". مهم التذكير بأن المملكة دخلت منذ سنوات- منذ الإعلان عن رؤية 2030- مرحلة مهمة من تاريخها الاقتصادي والسياسي، قوامها تنويع الاستثمارات وإعلان مشاريع عملاقة ترنو من خلالها الرياض إلى تنفيذ خطة ما بعد النفط، لكن التوصل إلى مرحلة ما بعد النفط يقتضي الاستفادة القصوى من مرحلة النفط. ذلك أن الاستثمارات والمشاريع المشار إليها تتطلبُ مالية متوازنة واعتمادات طائلة. المصلحة الوطنية للسعودية تتطلب أن تذهب الإيرادات المستخلصة من النفط إلى خزائنها، وهي إيرادات ضرورية لتمويل مشاريعها الضخمة على غرار المدن المستقبلية التي تبلغ قيمة استثماراتها تريليون دولار، فضلا قيمة الأجور الحكومية. في هذا الصدد يشار إلى أن السعر المرتفع والذي يحقق التوازن في الميزانية السعودية هو بسبب الإنفاق الكبير على الخدمات الحكومية والاستثمار في البنية التحتية والقطاع العام.
قد لا يكفي الحيز إلى استعراض الدواعي الوجيهة لكل أعضاء منظمة أوبك، لكن "التصويب" الأميركي الديمقراطي على السعودية جعلنا نقتصر في بحثنا عن الأسباب الاقتصادية والسياسية التي دفعت السعودية إلى تبني هذا الخيار والذود عنه.
وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب اعتبر أن القرار الذي اتخذته أوبك في الخامس من الشهر الجاري هو "تاريخي". ولعل توصيفه للقرار على أنه "رد فني بحت قائم على اعتبارات اقتصادية بحتة"، توصيف دقيق وشامل لكل ما أحاط بالقرار من حيثيات اقتصادية عالمية. وهذا يجرنا إلى القول بأن هذا الخلاف الأميركي السعودي (إن جاز التوصيف) وبقدر ما وفر من تحامل في الموقف الأميركي وبقدر ما قدم من استجابة مبالغ فيها، فإنه أشر أيضا على أننا نعيش مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تقوم على أن الكثير من دول العام أصبحت تبحث عن مصالحها الوطنية، وتتلمس مساراتها في تجمعات اقتصادية وإقليمية جديدة ومستحدثة، تنشدُ من خلالها تحقيق طموحاتها وطموحات شعوبها. لكن الإدارة الأميركية مازالت تقرأ إحداثيات العالم بمنطق الهيمنة الذي كان سائدا في العقود السابقة سواء أثناء الحرب الباردة أو بعدها عندما أصبح العالم أحادي القطب.
لا تبدو المشكلة الأخيرة صداما، حقيقيا بين الولايات المتحدة، وبين دول اوبك، بل هي أولا مجرد اختلاف في زوايا النظر لواقع إنتاج الطاقة ومستقبله، لكن هذا التوصيف لا يحول دون الإقرار بوجود عقلية سياسية أصبحت تسود العالم وتتمثل في أن قسما هاما من دول العالم أصبح يفكر بطريقة أقرب إلى النجاعة منها إلى الاصطفافات الأيديولوجية التي كانت تطبع العلاقات الدبلوماسية في زمن مضى. لكن الولايات المتحدة مازالت تنظر إلى العالم بنظرة زمن قديم، ولم تنتبه إلى أن مفاعيل قرار أوبك الذي اتخذته 23 دولة، تعود في اغلبها إلى أسباب أميركية عميقة. حيث وصف وزير الدولة للشؤون الخارجية، عادل الجبير هذا الأمر بقوله، "السبب في ارتفاع أسعار النفط في الولايات المتحدة هو أن لديها نقصا في التكرير موجودا منذ أكثر من 20 عاما". واعتبر أن سبب ارتفاع أسعار النفط هو النقص في إنتاج المصافي الأميركية، فضلا عن عدم توسعة إدارة بايدن إنتاج النفط المحلي.
التباين الأخير بين دواعي قرار أوبك الأخير وبين القراءة الأميركية له وما أنتجته من هجوم هستيري على السعودية، أقام الدليل على أننا نعاينُ زمنا سياسيا جديدا شبت فيه دول كثيرة عن الطوق الأميركي، وأصبحت تبحث عن مصالحها بعيدا عن المدار الأميركي والغربي عموما. لا تتخذ السعودية أو الإمارات أو غيرها قراراتها وفق الانتظارات الأميركية، أو حسب المزاج السياسي الأميركي، بل تحدد رؤاها وفق ما تراه صالحًا لدولها ولأمنها ولمستقبل شعوبها، صحيح أنه ثمة تقاطعات استراتيجية كثيرة، ومشتركات تاريخية كثيرة، لكن ذلك لا يمنع أية دولة من أن تنتصر لمصالحها الوطنية وتمضي بها بعيدا حتى وإن أدى ذلك إلى تصادم تكتيكي مع الولايات المتحدة أو مع غيرها. ولعل الهستيريا الأميركية الأخيرة، وبقدر ما عكست الواقع الداخلي الأميركي، فإنها ترجمت أيضا نوعا من الصدمة تجاه خروج دول كثيرة عن التبعية للقطب الأميركي، وهي تبعية مازالت تعشش فقط في العقل السياسي الأميركي.