ما المواطَنة؟ ما الموارد التي تتكوّن منها وتكتسب منها وضعَها الاعتباريّ الخاصّ في الدّولة الحديثة؛ ثمّ ما عساها تكون العلاقة بين المواطنة والحريّة والمساواة؟

يُشارُ بالمواطنة اليوم - أعني في نطاق الدّولة الحديثة - إلى حالةٍ سياسيّة- قانونيّة متولِّدة من الاعتراف الدّستوريّ والقانونيّ، من الدّولة الوطنيّة، بجملةٍ من الحقوق المدنيّة والسّياسيّة لكلّ أولئك الذين ينتسبون إلى الكيان الوطني؛ وهي حقوق يتمتّعون بها على قدْر المساواة أمام القانون. بل إنّ مفهوم المواطنة نفسَه يشير إلى تينِك العلاقتيْن المؤسِّستيْن التي ينطوي عليهما؛ أعني الحريّة والمساواة. ما من مواطنٍ غيرِ حرٍّ أو لا يكون حرّاً فيما هو مواطن؛ إذْ تكون مواطَنَتُهُ في حُكْم العدم في هذه الحال من انعدام حريّته، أو حتّى من الانتقاص منها. وبالمثل، ما مِن مواطَنةٍ من دون مساواةٍ بين من يحملون صفة مواطنين؛ إذْ لو وقع التّمييز بينهم في الحقوق فتفاوتَتْ وفَضَل بعضُها على بعض، لاَنْشَرَخ مبدأُ المواطنيّة من الأساس وضُرِبتِ المساواة في مقْتل.

على أنّ هذا التّلازم الماهويّ بين مبدأيْ الحريّة والمساواة، في تأسيس معنى المواطنة اليوم، لم يُبْصرِ النّورَ اتِّفاقاً، ولا هو ممّا نشأ منذ البداية، وإنّما له تاريخٌ تَطَوَّر فيه قبل أن يستتبّ. لقد أخذ من الزّمن التّاريخيّ شطراً مديداً؛ وأخذ من التّجارب الإنسانيّة والسّياسيّة كثيرَها إلى أن نضجت شروطُه، واستقام له الاقتران، واستتبَ له الأمرُ بما هو علاقةٌ تأسيسيّة. ولم يكن ذلك أمرُه في ما مضى من أزمنةٍ، في سياق التّجارب السّياسيّة السّابقة ونماذج الدّول المتعاقبة، في العهود القديمة، قبل قيام الدّولة الوطنيّة الحديثة ورسوخها في القرون الثّلاثة الأخيرة. بل إنّ الغالب على الحدّين (الحريّة، المساواة) انفصالُهما في تجارب الماضي السّياسيّة إنْ لم نقُل تَجافيهما. ولزمنٍ طويلٍ، كان يمكن لرعايا دولةٍ مّا أن يكونوا أحراراً - وإنْ في قسمٍ غيرِ قليلٍ منهم (= في الدّولة الرّومانيّة مثلاً) - من غير أن يكونوا متساوين في الحقوق التي يتمتّعون بها، ومن غير أن يُنْظَر إلى التّفاوُت بينهم على هذا الصّعيد وكأنّه أمرٌ شاذّ عن الطّبائع. إنّ التّلازم بينهما، في الواقع، من ثمرات عهد الدّولة الوطنيّة الحديثة، ويستعصي البحث عنه في ما قبلها.

وهكذا بمقدار ما كان معنى المواطنة وواقعُها منقوصاً غيرَ مكتمِل، حين لم تكُنِ المطابَقةُ بين الحريّة والمساواة ناجزةً في ما مضى من أزمنة الاجتماع السّياسيّ، كذلك ظلّ معنى المواطن - في المجتمعات والدّول التي اعترفت به كمواطن - منقوصاً غيرَ مكتمل. ومع ذلك، مع سريان مفعول هذا النّقصان في علاقات المجال السّياسيّ، ظلّ مفهوم المواطنة - في الوقت عينه - يكتسب من الأبعاد والسّمات والفرص ما ظلّ يغتني به، مع الزّمن، ويغطّي نواقصَه شيئاً فشيئاً فيصبو، بالتّالي، إلى المزيد. ولعلّه من دون التّسلّح بهذه النّظرة التّاريخيّة إلى المفهوم هذا (= وإلى غيره من مفاهيم السّياسة مثل الحريّة، والتّمثيل، والسّلطة، والدّولة...)، لن يكون في الوسع بناءُ معرفةٍ صحيحة عن صيرورة معناه. إنّ أوّل ما يعنيه هذا هو أنّ لمفهوم المواطن، كما لمفهوم المواطنة، تاريخاً خاصّاً تطوَّر فيه على نحوٍ يمتنع معه فَهْمُه بمعزلٍ عن قراءته في تاريخيّته، أي في سياقِ ما اكتسبه في كلّ طوْرٍ من ذلك التّاريخ الذي قطعه. وهذا نوعٌ من القراءة يحرِّرنا من الإدراك النّمطيّ الجامد للمفاهيم الذي يشجّع عليه انتزاعُها من بيئة تطوُّرها التّاريخيّ، والنّظر إليها، نظرة معجميّة، بما هي ناجزة ونهائيّة المعنى!

على أنّ تاريخ مفهوميْ المواطن والمواطَنة تاريخٌ نظريّ، بمقدار ما هو - في الوقت ذاته - تاريخٌ سياسيّ متحقّق هو عينُه تاريخ المجال السّياسيّ الذي كان بيئتَه، والذي فيه تطوَّرت أوضاعُ المواطَنة واغتنتْ باكتسابها حقوقاً جديدة ومضامينَ جديدة ما كانت لها في الماضي. والتّاريخ النّظريّ لمفهوم المواطن ليس شيئاً آخر غير تاريخ الفكر السّياسيّ، الذي تطوّر فيه المفهوم - أُسْوَةً بمفاهيم السّياسة جميعِها - واكتسب دلالات متراكمةً بتقدُّم المعارف. وغير خافٍ ما للفلسفة السّياسيّة من مكانةٍ مميَّزَة في هذا التّاريخ النّظريّ بحسبان الفلسفة، إجمالاً، الميدانَ المعرفيَّ الأكثر قدرةً على إنتاج المفاهيم - على قولٍ دقيقٍ لِجِيل دولوز- وإحداث الانعطافات في نظامها الدّلاليّ. أمّا التّاريخ السّياسيّ للمفهوم فهو تاريخ الدّولة نفسها من حيث هي البيئة الحَاضنة لعلاقات المواطنة، والتي فيها تطوَّرت منظومتُها في امتداد تطوُّر منظومة الدّولة.

من النّافل القول إنّ مفهوم المواطَنة، شأن غيره من المفاهيم التي هي كائنات معرفيّة حيّة، شهِد على تطوُّراتٍ وتحوُّلات - في مجرى الفكر السّياسيّ وفي مجرى الدّول - نقلته من حالٍ إلى حال. معرفةُ ذلك المسار من السّيرورةِ والصّيرورة، اللّتين قطعهما المفهوم، هي أفضل سبيلٍ لبناءِ أَرْصَنِ معرفة نظريّةٍ به.