بين زيارتي الأولى للسعودية مطلع 2014 (للمشاركة في فعاليات مهرجان الجنادرية الثقافي)، وبين زيارتي الأخيرة مصرع 2022 (للمشاركة في فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب)، فسحة لم يكن الحكم في تقييمها هو زمن التسعة أعوام، ولكن القياس في شأنها صار غنيمة ضيف جليل حلّ في أرض النبوّة بعد غياب طويل هو: الإصلاح!
الإصلاح الذي اغترب عن واقع أوطاننا بسبب الشغف بورمٍ جنونيّ، افترس قيمنا طويلاً، مترجماً في حرف أيديولوجيات عدوانية، لم تتردّد في أن تُغرق إنساننا البريء بنزيف الدمّ طوال عشرات الأعوام، لتنسف في وجدانه الأمل بوجود خلاص: خلاص تغنّى به طويلاً في حلم الأجيال، المدعو في لغتنا: نهضةً!
حدث هذا بسبب موقفنا من مبدأ نصّبناه معبوداً في تجربتنا الوجودية هو: التغيير. التغيير الذي يسوّقه الإنسان الحضري خارطة طريق، باعتناق دين الأيديولوجيا. وهي الجنيّة التي تدمن التغيير في واقع الحرف، معتمدةً مصطلح الثورة سبيلاً لتحقيق التغيير في بُنية الحرف، دون أن نتريّث في قراءة كلمة ثورة هذه، التي تعني "فورة" (كإبدال مشروع وشائع بين الثاء المثلّثة والفاء)، استعارةً من اسم حيوانٍ أهوج، هو مثال في فورات جنونه، كما الحال مع: الثور! أمّا في اللغات المنبثقة عن اللاتينيّة، التي اعتمدت فعل الهيجان هذا، فقد استخدمت كلمة خاطئة، حقّ لنا أن نصفها بالتجديف في حقّ ما انتدبت إليه، وهي: revolution المعبّرة في اللغات الأوروبية كافة عن معنى الردّة أو الارتداد. الارتداد عن نيّة نبيلة، سنّها عقل حكيم، للتدليل على بلوغ العُلا بروحٍ سلميّة، كما الحال مع كلمة: evolution الدالّة على فعل طبيعي في نشاط المخلوق البشري، وهو: التطوير! وهو ما يعني أن الثورة، في صيغة revolution، ما هي إلّا كفرٌ بالسعي إلى الأمام، إنكارٌ لتوق النفس الإنسانية إلى التمرّد على السكون، وتلبية لنداء الزحف الحثيث إلى الأعلى، لأن في هذا التوق يكمن سرّ الوجود، الذي لم يكن ليوجد كوجود، لولا سلطة النّبض الغيبيّ المعجز، الذي نفى في نفسه شلل الاستسلام لحضورٍ في العدم، وخلق في فطرته طاقة اخترعنا لها إسم الإرادة، التي تمكّنا بفضلها من تحقيق ولادة الانبثاق من قمقم المجهول، تماماً كما تخرق الكمأة صلد الطين، لتنبثق من رحم العدم، ليحقّ لنا أن نسمّي هذا الإعجاز تطوّراً. والثورة بالمفهوم الشائع، رفضٌ لهذا الفعل المشفوع بروح الطبيعة، والمسكون بروح الألوهة أيضاً، وهو ما يعني أنها عداءٌ سافر من حيث المبدأ لكلّ ما متّ بصلة للطبيعة، وللألوهة، وللمنطق بالتالي. ولم يكن الإنسان الحضري ليعترف بها كحجّة في تجربته التحريرية لولا إغواء العدوان، الذي صار في مجتمعٍ الكلّ فيه صفقة قابلة للاستثمار في نظر الكلّ، والنفع هو رأسمال عملة التعامل السائد، بعد أن كان الحبّ هو العملة المهيمنة في حياة هذا الإنسان، في ذلك العصر الذهبي، الذي كان فيه عضواً في قبيلٍ بشريٍّ متلاحم، يعتنق الهجرة ديناً، هجرة هي بالمنطق قدس أقداس لأنها حرية، ولكنه ضلّ السبيل إلى الحقيقة في ذلك اليوم، الذي اعتقل نفسه في قمقم الملكيّة، ليصير عبداً لأرضٍ توهّم دوماً أنه عليها سيّد، فتبلبل منذ ذلك التاريخ، ليقبل بالسكون مقاماً، بعد أن كان في عرفه وفاةً، كان في عُرفه مِيتةً، لينقسم الجنس البشري إلى شقّين: برّي، استعارة من لفظة بريء، وحضريٌّ، استعارة من الحضور، الرديف في اللغة أيضاً للبيات، للوفاة، للمِيتات!
وكان الطبيعي أن يعتنق الايديولوجيا، لأنها تغذّي فيه الجوع إلى العدوان. العدوان الذي عشعش في نفس هذا النموذج بسبب إدمانه طعن الأرض بالأنصال ليستخرج منها القوت غصباً، بعد أن تخلّى عن فردوس الترحال، عندما كانت تجود عليه بخيراتها طوعاً. احتراف انتزاع القُوت من أرضٍ هي أمّ، هو الإثم الذي ربّى في هذا الابن الضالّ النزوع إلى العدوان، الشهوة إلى اللجوء إلى القوّة، إلى العنف، لاغتنام حاجات يومه. وكان من الطبيعي أن يتحوّل المحيط البيئيّ، مع تدفّق الزمان، إلى خصمٍ في نظر هذا النموذج. يتحوّل عدوّاً يستدعي الاحتكام إلى السلاح، بالتفنّن في اختراع صنوف السلاح، بدعوى الدفاع عن النفس، ناسياً أن المغالاة في الدفاع عن النفس عدوانٌ صريح في نهاية المطاف، ممّا أدّى إلى احترافه العدوان كطريقة حياة. ومن الطبيعي، في واقعٍ كهذا، أن تشفي غليله عقيدة عدوانيّة كالـ"أيدوس"، التي تؤمن بوجوب أن ننتزع غصباً، ما لا نستطيع أن نناله طوعاً!
هذا اليقين ما لبث أن نصّب الحرف على الوجود وصيّاً. فعندما احتاج في أحد الأيام إلى تجديد وجوده، بتحريره من دنس إثمٍ هو الروتين، لم يحتكم إلى نفسه، إلى الذخيرة التي تسكنه، لأنها كنزٌ منيع، فاختار بالطبع شنّ الهجوم على الحرف الذي يسكن ما نسمّيه بلغة اليوم: الواقع. واقعٌ يترجم العالم. العالم كشبح يوهمنا بحضوره بمعزلٍ عنّا، ليمتلك، بهذا الوهم، سلطاناً علينا. في حين أنه مجرّد شبح. مرآه تعكس صورتنا، لا وجداننا، لا حقيقتنا التي تسكننا، لأن العالم روح شرّيرة تمارس خداعنا، عندما توهمنا بوجود سلطة لها علينا. والإنسان الحضري كان دوماً ضحيّة هذا الوهم، بدليل أنه كان يخفق في كل مرة حاول فيها أن يحقّق لنفسه تغييراً، يحقق تحريراً، بعون نصل أيديولوجي هو، نزيفٌ دموي باسم الثورة، ليكتشف أنه جنى على نفسه بهذا الطيش الجنوني، لأنّ المفاجأة هي أنه احتكم إلى العروة الخطأ، طلب الخلاص من المعبود المزوّر، ونسي أن الخلاص من نصيب قرينه البرّي، الذي لم يحتج يوماً للقيام بثورة، لأنه تحرر من وجود ذلك الواقع، الذي يتكوّم فيه الناس بجوار بعضهم البعض كالقنافذ، ليجيروا بعضهم من خوفٍ صنعوه بأيديهم، ولكنهم لا يطيقون الالتحام، لأنهم لا يحتملون الجوار بسبب وخزهم لبعضهم، ممّا يحتّم الثورة لتعديل هذا الواقع. فالإنسان البرّي تحرّر لا بسبب محوه للواقع في تجربته الوجودية وحسب، ولكن بسبب إيمانه بوجود ذخيرته في قلبه، واحتكامه إلى الواقع الذي يسكنه، لينهل منه التعويذة في التحرير: تحرير ما بنفسه، لأن هنا فقط يسكن الأصل، يسكن القاضي المخوّل بصنع التطوير، المؤدّي إلى التحرير، الذي يحقّق التغيير، ليكون في هذه الملحمة حكماً.
وكان على قرينه الحضري أن يتخبّط في دماء ثوراته الآثمة طويلاً، قبل أن يهتدي إلى حقيقة تجاهلها طويلاً، برغم أنها في المتناول: حقيقة السِّلْم. السِّلْم، ذلك البلسم، الذي نستهين به، ولا نكتشف معجزته، ما لم نستثمره عمليّاً. ولم يكن السِّلم ليتحوّل في تجربتنا الوجودية شفيعاً، لو لم يتحفنا بتعويذة اسمها الاستقرار. فالاستقرار، في المفهوم، ليس سكوناً، بل هو التمرّد على السكون. تمرّدٌ على السكون في المفهوم كوفاة، في المفهوم كإقرارٍ بعدم. كالإقرار بشلل. فإذا كان السعي ترياق للصقيع، فإن الاستقرار تعويذة في حقّ الحرّ، كما تُقرّ الطاوية. أي موقف من الشطط، ومن حملات باطل الأباطيل، التي تبلبلنا. الاستقرار هنا سكينة. والروح، في وضع السكينة، طقسٌ حميم، غيبيّ، حكيم، لإبداع العجب! فإذا كانت هذه الفسحة الغيبيّة بهذا الثراء، فهل يعجزها أن تنجب من بطنها جنيناً وديعاً اسمه في لغتنا الدنيوية المنفّرة: نهضةً؟
يحدث هذا لأن الاستقرار، المنتج بحرف سِلمٍ والسِّلم، كخزينة ربوبية، بما هو سكينة مبدعة، اعتادت أن تجود على الوجود بالأجنّة المدهشة، حتّى إذا طال به المقام في واقع حضيض، احتاج إلى جرعة من إكسير تجديد. هذا الإكسير نسمّيه في لغتنا: إصلاحاً.
الإصلاح ترياق الواقع، الذي استقرّ طويلاً، فنالت منه القدمة، وتعرّض لداء الشيخوخة. والإصلاح دوماً كان الدواء لهذا الدّاء، لأن النشاط، في بُعد النهضة، جهدٌ حثيث لإنتاج تلك الطاقة التي نحقق بها حلم التطوّر. وكل محراب تطوّر في حاجة لالتقاط الأنفاس بممارسة صلاة. هذه الأنفاس تحرّض على تجديد النشاط لمواصلة الانسياب إلى الأمام. في هذه الوقفة ينتصب الإصلاح كمنقذ. ينتصب الإصلاح كرسول خلاص!
الإصلاح رسول الخلاص الذي يجير من القصاص.
يجير من ذلك القصاص، الذي اعتمدناه تكفيراً عن الإثم الجسيم، المترجم في حرف ما اعتدنا أن نطلق عليه اسم: الثورة!