على خلاف توقعات الجميع تقريباً، بضمنهم أعضاء في الإطار التنسيقي، نجح الأخير في تحقيق انتصار سياسي كبير بسهولة عالية ومفاجئة، باستطاعته عقد جلسة برلمانية استوفى فيها نصاب الثلثين الصعب.

انتخب فيها رئيس الجمهورية الذي قام مباشرةً بعد أدائه القسم الرئاسي بتكليف مرشح الإطار، السيد محمد شياع السوداني، لتشكيل الحكومة المقبلة في خلال 30 يوماً.

ثمة إجماع آخر ومقابل أن هذا الانتصار الإطاري جاء بسبب الغياب الصدري المفاجيء، بل الصادم، عن الحدث، وإخلاء ساحته تماماً أمام الجهود الإطارية لعقد الجلسة البرلمانية والمضي في تشكيل الحكومة.

على امتداد أيام قليلة وسريعة اختفى التيار الصدري تماماً عن مشهد السياسة في البلد واكتفى زعيمه في هذه الأيام بنشر تغريدات عادية ، مناسباتية الطابع بعيدة عن السياسة تتعلق بالتهنئة بالمولد النبوي وبدء العام الدراسي الجديد!!!.

في سياق الذهول العام بإزاء هذا الانكفاء الصدري المُحيِّر، برز حيزٌ لتفسيرات معقولة، لكنها غير مؤكدة، بشأن تسوية غير معلنة بين الطرفين، تُنهي ازمة تشكيل الحكومة، خصوصاً في اطار جهود دولية وإقليمية ومحلية تدفع للذهاب إلى حكومة كاملة الصلاحيات تحتاجها إدارة الدولة ومغادرة هذه الفترة الانتقالية الطويلة والمرهقة. كانت زيارات السفراء الغربيين لزعماء سياسيين إطاريين في الآونة الأخيرة جزءاً من هذه الجهود، وأضافت لها زخماً الإحاطةُ الأخيرة، الناقدة على نحو لاذع ومُحق للطبقة السياسية العراقية، لرئيسة البعثة الأممية في العراق، السيدة جنين بلاسخارت.

في سياق تعدادها للخطايا الكثيرة للطبقة السياسية الحاكمة الفاشلة، أكدت بلاسخارت على نقطة مركزية تتعلق بفشل هذه الطبقة في تشكيل حكومة بعد انقضاء نحو عام على انتخابات أكتوبر العام الماضي. ثم كانت هناك الرغبة الإيرانية المفهومة بتشكيل حكومة يهيمن عليها تماماً حلفاؤها العراقيون. واخيراً، كان هناك التعب الشعبي العراقي من مواجهة طويلة مفتوحة، وليست حاسمة على نحو سريع، بين التيار والإطار. في سياق هذه المواجهة، كانت صحة الأطروحة الصدرية، التي حظيت بتعاطف شعبي واسع، بضرورة تشكيل حكومة أغلبية سياسية تتحمل المسؤولية عن قراراتها صواباً وخطأً، بدلاً من تكرار سيناريو الحكومات التوافقية-المحاصصاتية حيث تضيع المسؤولية، تتعرض لتآكل مستمر بسبب استحالة تنفيذها بعد انسحاب الصدريين من البرلمان، وقبول الكتل السياسية المهيمنة برلمانياً، الشيعية والكردية والسنية، بالعودة الى الصيغة المحاصصاتية-التوافقية القديمة.

هل ثمة تسوية ما، جرى التوصل إليها وراء الكواليس ترفع الاعتراض الصدري على تشكيل حكومة بزعامة إطارية مقابل ضمانات بعدم استهدافها التيار الصدري؟ هذا احتمال قائم وقد تكشف الأيام مقدار صحته. في آخر المطاف، تشكيل حكومة إطارية تتولى إدارة شؤون البلد تجعل الإطار التنسيقي بمواجهة تحد أشد قوة وصعوبة من تحدي المواجهة مع الصدريين. انه تحدي الحكم ومسؤولياته الكثيرة والمرهقة التي فشل فيها الإطار ذريعاً عبر 5 حكومات تزعمها ساسة الإطار على مدى أكثر من 15 عاماً. سيضع هذا التحدي الإطار بمواجهة المجتمع بأجمعه، وليس التيار الصدري فقط. والبدايات الإطارية حالياً ليست مشجعة بهذا الصدد ولا تشي بمنهج مختلف عن السابق في سياق حكومة مستقبلية يقودها السيد محمد شياع السوداني.

يقدم ساسة الإطار، بضمنهم مرشحه لرئاسة الوزراء، هدفاً عالياً من دون شرح الوسائل المفضية لتحقيقه، إذ يُجمع ساسة الإطار على الحديث عن حكومة خدمة وطنية وإعمار، حكومة قوية يدعمها تكتل برلماني واسع لا تكرر فشل الماضي!! لكن ما الذي يعنيه هذا الكلام بالضبط، بعيداً عن لغة الأماني والطموحات المجانية التي ما عاد المجتمع يصدقها ويعتبرها علامة على الخداع وليس الاخلاص؟ هل ستستطيع حكومة "الخدمة الوطنية" هذه مثلاً حل مشكلة الكهرباء ضمن سقف زمني محدد ومعلن ينتهي في حياة هذه الحكومة؟ وما معنى حكومة قوية بالضبط؟ هل ستستطيع هذه الحكومة مثلاً احتكار السلاح والتحكم به، فيما بعض أهم رعاتها فصائل مسلحة اعتادت تحدي احتكار الدولة للسلاح وتهديد مسؤولين رفيعي المستوى في الدولة، بضمنهم القائد العام للقوات المسلحة؟ وكيف يمكن تحقيق إعمار حقيقي وملموس في البلد في ظل هيمنة الاحزاب السياسية، وكثير منها جزء من الإطار التنسيقي، على مؤسسات الدولة عبر مكاتبها الاقتصادية؟ هل ستقوم حكومة السودانى بتفكيك هذه المكاتب مثلاً؟

تظل أسئلة كثيرة مشروعة كهذه بدون إجابة إطارية عليها. يعني هذا كله أننا بإزاء خطاب انشائي مكرر يُقدم للناس على أنه إصلاح مرتقب يتمحور حول ارادة سياسية جديدة وصلبة لتغيير الأوضاع نحو الأفضل. سيوضع هذا الخطاب الانشائي أمام اختبار عسير عندما تتولى حكومة السوداني مقاليد الحكم إذا نجح الرجل في تشكيل هذه الحكومة. في ظل غياب برنامج إصلاحي جدي للإطار التنسيقي يحدد خطوات الإصلاح وأهدافه، ستتولى وقائع الحكم في ظل حكومة إطارية لا تختلف عن سابقاتها، هزيمة الإطار التنسيقي، وليس المعارضة الصدرية.

لكن يتعلق الدرس الأهم في مشهد الأيام القليلة الماضية بسلوك الصدريين الأخير المثير للقلق. يمثل الانزواء الصدري في لحظة الحسم خطأً فادحاً لجهة إمكانية تحول التيار الصدري إلى حركة معارضة شعبية واسعة وفعالة وموثوق بها ضد النظام السياسي الذي أخذ الصدريون ينسلخون عنه تدريجياً على نحو متواصل وصائب. على مدى أشهر طويلة تولى التيار الصدري، عبر زعيمه ووزيره اولاً وفعالياته السياسية الاخرى ثانياً، تحشيد الجمهور العام، خصوصاً غير الصدري، ضد الإطار التنسيقي بوصف الأخير المدافع الشرس عن الطبقة السياسية التقليدية بقيمها المحاصصاتية-التوافقية المكروهة شعبياً. في إطار هذا التحشيد، كان التيار يهيء الجمهور لمواجهة مع الإطار، ويقدم وعوداً واضحةً وصريحة ومتكررة انه سيمضي بها إلى آخر الشوط، طالباً مساندة هذا الجمهور.

في الحقيقة، كانت حملة التحشيد هذه ناجحة، إذ أكسبت قضية التيار تعاطفاً شعبياً متصاعداً، ليس فقط بسبب مطالبة الأخير الشرسة بحكومة اغلبية سياسية تفكك المحاصصة والتوافق، بل ايضاً بسبب انسحابه الشجاع والجريء من البرلمان واستعداده للذهاب الى الشارع دفاعاً عما يؤمن به. لم يكن هذا الدعم الشعبي الواسع للتيار بالضرورة قبولاً فكرياً بالقيم الأيديولوجية للتيار الصدري بوصفه حركة إسلامية سياسية، بل تعاطفاً وتأييداً للمقترحات ذات الطابع الوطني التي أثارها التيار ووعد بتنفيذها في حال توليه الحكم (تفكيك منظومة المحاصصة والتوافق، مكافحة شرسة للفساد، تفكيك الميليشيات، والإصرار على علاقة متكافئة مع إيران).

في سياق هذه التطورات المهمة في علاقة التيار الصدري بالجمهور، بضمنها وعده المتكرر والعلني أنه لن يسمح بإمرار حكومة إطارية بزعامة السوداني، لم يكن منطقياً ولا مقبولاً أن ينسحب التيار عند اقتراب المواجهة، ويصمت من دون تقديم شرح ما بخصوص قراره بالانسحاب لهذا الجمهور الذي كان التيار يحاجج انه يدافع عن مصالحه ويطلب دعمه ايضاً. لم تكن هذه فقط لحظة خذلان صدري لهذا الجمهور العام، بل ايضاً سلوك متعال نحوه. يحتاج التيار أن يتعاطى مع الجمهور بوصفه شريكاً له وليس تابعاً له كما هم انصار التيار الصدري العقائديون الذين تقوم علاقتهم بتيارهم على الطاعة وليس الإقناع.

لم يكن قرار التيار الصدري الأخير بعدم الاعتراض على تشكيل حكومة إطارية خاطئاً بالضرورة، فهو في جوهره، بغض النظر عن أسبابه الحقيقية التي استجدت مؤخراً، استعادة للموقف الصدري الأول بعد انسحاب الصدريين من البرلمان في يونيو الماضي. كان التوجه الصدري حينها هو عدم الوقوف بوجه تشكيل الإطار حكومةً جديدة ومعارضتها تالياً على أساس سجلها في الحكم، لكن اكتمال التسريبات المنسوبة للمالكي واستعجال معسكر الأخير استبدال النواب الصدريين المستقيلين ببدلاء معظمهم إطارين، ضمن السعي لتشكيل حكومة تستهدف الصدريين، هو الذي جعل التيار يتراجع عن موقفه من السماح إلى الاعتراض الشديد. تكمن المشكلة الأساسية في تجاهل التيار للجمهور الكبير الذي تعاطف معه وتعاليه عليه برفضه شرحه موقفه له وليس طبيعة الموقف نفسه.

إذا أراد الصدريون النجاح في التعاطي مع الشارع وكسبه لجانبهم، فثمة حاجة حقيقية للتواصل مع هذا الشارع وإشعاره أنه محط احترام التيار الصدري واعتباره. في مشهد الانسحاب والصمت الصدري الأخير فشل التيار الصدري في أن يبرهن هذا. في آخر المطاف، التواصل مع الجمهور بخصوص مسألة ضرورية هيمنت على البلد وشَلَّته تقريباً مدة عام أهم بكثير من اصدار زعيم التيار تهنئة روتينية ببدءالعام الدراسي الجديد!

يتبع..