في المقالات الثلاث السابقة تعرضنا بالمناقشة لتوجهات السياسة الخارجية للرئيس الأميركي جو بايدن ومدى تماسكها وقدرتها على تحقيق حلم القرن الأميركي الذي استدعاه بايدن وتحدث عنه باستفاضة في خطابه الشهير الشهر الماضي في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا ومدى قدرتها على فرض الريادة الأميركية المنفردة للعالم التي تمثل جوهر مشروع القرن الأميركي.

ورغم أن الحديث عن السياسة الخارجية الأميركية وما ألحقه بها بايدن من ضرر لم ولن ينتهي وستكون هناك عودة قريبة إليه نظرا للتطورات المستمرة على الساحة الدولية وتداعياتها الكبيرة والتي تلعب فيها توجهات بايدن دورا حاسما، فإن ما لحق بالداخل الأميركي من ضرر بسبب سياسات بايدن الداخلية، ربما يفوق ما لحق بالعالم من ضرر وما لحق بحلفاء أميركا من خسائر نتيجة توجهات سياسته الخارجية وطريقة إدارتها، لذا فإن الحديث عن المشكلات الداخلية وسياسات مواجهتها والتصدي لها في هذا التوقيت تحديدا بات ضروريا باعتبارها محددا رئيسيا في استشرف مستقبل القيادة الأميركية للعالم كما يعمل عليها وكما يتمناها بايدن.

في مقال سابق قلنا إن جو بايدن عندما دخل البيت الأبيض لم يكن مطلوبا منه سوى مهمة واحدة، وهي ألا يكون دونالد ترامب، وهي ربما تكون أسهل مهمة لرئيس أميركي على الإطلاق، فقد دخل بادين مكتبه البيضاوي في ظروف قد تبدو صعبة داخليا بسبب الأجواء التي صاحبت الانتخابات التي جاءت به والتشكيك الذي تم في نزاهتها، وما تلاها من هجوم على مبنى الكابيتول في السادس من يناير 2021 وما أحدثه من جرح عميق في النسيج الأميركي، لكن هذه الظروف رغم صعوبتها أكسبته شعبية مجانية مسبقة حتى قبل أن يباشر مهام عمله، وأعطته رصيدا من تأييد مسبق لم يبنَ على قرارات اتخذها ولكن افتراضا من تمايز واختلاف عن سلفه الذي وجهت إليه وحده سهام النقد فيما أصاب الديمقراطية الأميركية ووجهت إليه أصابع الاتهام بالمساس بهيبة أميركا وصورتها الخارجية.

هنا نُظر إلى بايدن باعتباره الرئيس المنقذ المطالب بإعادة التلاحم الاجتماعي وإنهاء الانقسام المجتمعي ورأب الصدع الذي تسببت فيه ممارسات سلفه داخليا، واستعادة هيبة أميركا العظمى خارجيا التي تضررت من "مغامرات" ترامب كما يصفها منتقدوه، وهنا يبقى السؤال: هل نجح بايدن في هذا الاختبار؟ هل بعد عام ثان يكاد ينقضي من حكم إدارته وما اتخذه فيها من سياسات خارجيا وداخليا تعطي أمثلة على هذا النجاح أو مؤشرات على أنه في طريقه للنجاح خلال ما تبقى من حكمه بشكل يجعلنا نجزم بأن بايدن قادر على تحقيق حلم القرن الأميركي والوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه أمام أنصاره الشهر الماضي في فيلاديلفيا عندما قال إن "القرن الـ21 سيكون قرنا أميركيا بامتياز"؟

خارجيا تحدثنا باستفاضة خلال مقالات ثلاث سابقة عما ألحقته إدارة بايدن من ضرر للعالم، وما كبدته من خسائر للحلفاء قبل الأعداء، أما داخليا ودون الدخول في تفاصيل كثيرة وفي إشارات ودلالات سريعة وكاشفة يمكن القول اختصارا إن الوضع الداخلي لا يزال بنفس السوء إن لم يمكن أسوأ، فالانقسامات الأميركية أصبحت عميقة ومتأصلة بحيث يصعب على رئيس بمواصفات بايدن أن ينهيها أو يقلصها، وكانت مقامرة غير محسوبة من الديمقراطيين أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الرهان على قدرة مرشحهم على التغلب على هذه الانقسامات استنادا إلى خبرته وهدوئه وعقلانيته وتقدمه في السن، وربما ما حدث كان على النقيض تماما مما تم الرهان عليه، إذ اتخذ بايدن كثيرا من المواقف التي يمكن أن تعمق من حالة الانقسام، ربما كان آخرها الأسبوع الماضي عندما كان في زيارة إلى فلوريدا للوقوف على أضرار إعصار إيان بالولاية وتلفظ بلفظة نابية لا تليق إطلاقا برئيس أميركي ولا أي مسؤول آخر، وذلك في تكرار لواقعة مشابهة العام الماضي عندما أهان صحفيا في قناة "فوكس نيوز" وسبه بألفاظ نابية طالت والدته على الهواء مباشرة عندما سأله عن زيادة التضخم ودوره في حسم انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وهي وقائع لو تمت في عهد ترامب لكانت مدعاة لثورة الرأي العام ووسائل الإعلام وربما كانت سببا مباشرا لتحريك دعاوى عزل الرئيس من منصبه، لكن في عهد بايدن مرت الواقعتين من دون حساب وحتى دون أن يسمع عنها الكثيرون.

داخليا أيضا كان التعامل مع تداعيات انتشار فيروس كورونا أحد أهم الأسباب التي أثرت على نتيجة الانتخابات الأميركية بل كانت ربما العامل الرئيسي في فوز بايدن وخسارة ترامب الذي اتهم بالفشل في إدارة الأزمة، خاصة مع توقيت إعلان شركة فايزر عن اللقاح، والتي اتهمها ترامب بتعمد تأخير إعلان التوصل للقاح لفيروس كورونا لحرمانه من زيادة عدد المصوتين لصالحه في الانتخابات، فهل تعامل بايدن بشكل مختلف؟ وهل نجح فيما فشل فيه ترامب؟

ربما تجيب الأرقام على هذا السؤال، فقبل أن يغادر ترامب منصبه بلغ عدد الوفيات جراء الفيروس في الولايات المتحدة الأميركية 400 ألف فقط ولم يكن وقتها قد تم البدء في استخدام اللقاح، وهو ما دفع بايدن لوضع مكافحة الفيروس على رأس أولوياته. أما في ظل حكم بايدن الذي لم يتجاوز عامين وفي ظل حملات تلقيح واسعة بعد أن أصبح اللقاح متاحا منذ الربيع قبل الماضي زاد عدد الوفيات بشكل كبير في العام الجاري والعام الماضي عن عام 2020، ووصل حتى اللحظة إلى مليون وستون ألف ضحية، ما يعني تضاعف الرقم مرة ونصف عن عام 2020، وذلك رغم الانتشار الواسع للقاحات. وهو ما دفع المحافظين والجمهوريين للقول إن بايدن قد فشل في الوفاء بوعده في السيطرة على الفيروس. فيما ذهب البعض إلى حد القول إن هذه الإحصائية تثبت أن تعامل بايدن مع الفيروس أسوأ مما كان عليه الرئيس دونالد ترامب، بالنظر إلى أن أكثر من نصف الموتى فقدوا حياتهم بعد أن أصبحت اللقاحات متاحة، ومع اقتراب العالم من "خط النهاية" المأمول لهذا الفيروس، لا تزال الولايات المتحدة تحتل صدارة دول العالم من حيث عدد ضحاياه، حيث بلغ نصيبها وحدها 17 بالمئة من وفيات العالم الناتجة عن الإصابة بهذا الفيروس.

فيما يتعلق بالاقتصاد وهذا هو العامل الداخلي الأهم في التقييم، فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي الأميركي خلال ربعين متتاليين، 1.6 في المئة خلال الربع الأول من العام الجاري، و0.6 في المئة في الربع التالي، وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأميركي كان قد بدأ بعد عام من حكم بايدن في الانتعاش مجددا والعودة تدريجيا لمستويات ما قبل كورونا إلا أن مستوى الانتعاش الاقتصادي ليس بالقوة التي كانت متوقعة ومنتظرة، ورغم إعلان بايدن عن توفير أكثر من 3 ملايين وظيفة بعد عام واحد من حكمه، فإنه أقر بنفسه بوجود أزمة في ارتفاع الأسعار المستمر داخل الولايات المتحدة، واعترف بأن التضخم يسبب الألم للأسر الأميركية.

كان هذا قبل اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية وتأثيراتها على مستويات التضخم التي كانت قد ‏ارتفعت بنسبة 7 بالمئة في عام 2021، وهي أكبر ‏زيادة منذ يونيو من عام 1982، وهي الزيادة التي رأى الجمهوريون وقتها أنها ‏نتيجة سياسات الديمقراطيين و"الإنفاق المتهور".

أما بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية فقد بلغ ارتفاع الأسعار في يونيو الماضي إلى 9.1 بالمئة على أساس سنوي، وعلى الرغم من تباطأ معدل التضخم خلال يوليو وأغسطس الماضيين على خلفية التراجع الحاد في أسعار الغاز، لكن بعيدا عن الطاقة تظل أغلب السلع أعلى سعرا بكثير، في إشارة تدل على أن التضخم لا يزال عبئا ثقيلا على الأسر الأميركية، وهو ما جعل 3 من كل 5 أميركيين يقولون إن الولايات المتحدة تعاني حالة ركود، وفقا لآخر استطلاع أجرته مجلة إيكونوميست بالتعاون مع مؤسسة يوجوف البحثية، وهو نفس ما يذهب إليه الخبير الاقتصادي البارز نورييل روبيني، الذي كان قد تنبأ مسبقا بحدوث الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، ويتوقع ركودا "طويلا وخطيرا وبشعا" بحسب وصفه، يمكن أن يستمر حتى عام 2023.

وداخليا أيضا ربما يكون المجال الأخير للمقارنة بين ترامب وبايدن هو ما يتعلق بسياسات الهجرة والحدود المتشددة التي اتخذها الأول، والتي وعد الثاني أن تكون إدارته أكثر رأفة وإنسانية في التعاطي معها، إلا أنه بعد أقل من عامين من حكمه وجد بايدن نفسه يشرف على تصاعد غير مسبوق لعلميات العبور غير القانونية للحدود الأميركية، الأمر الذي أدى لتصاعد الأصوات الأميركية المطالبة الآن بسياسة "ترامبية" عاجلة لحماية حدود أميركا.

إذن كان من المفترض والمتوقع أن يكون بايدن أفضل من سلفه، لكن يبدوا أن حصاد 21 شهرا فقط جعل ترامب في نظر كثير من الأميركيين يبدو الرئيس الأفضل، ويبدو المرشح الجمهوري الأكثر حظا حتى اللحظة في انتخابات 2024، بل أصبح بعضهم يرى الآن أن الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة لم تأت سوى بنسخة يسارية من الترامبية، فما المانع إذن من العودة للنسخة الأصلية في الانتخابات المقبلة وإعطاء ترامب فرصة ثانية لمحاولة جعل أميركا عظيمة مرة أخرى؟