لا يزال قيصر روسيا فلاديمير بوتين يتعامل مع غزوه كحق مكتسب ومشروع لا ينازعه في صحته أحدا، فلا تحذيرات الدول الغربية أجدت ولا الكلفة الباهظة للحرب والعزلة والعقوبات التي فرضت عليه أتت بمفعول رجعي لتوقف عمله العسكري ضد أوكرانيا.
وآخر ما توصل إليه القيصر الراغب ببناء إمبراطوريته على حساب نزع استقلالية الشعوب والأراضي المجاورة إعلان التعبئة العسكرية الجزئية تمهيدا لحملته في الخريف المقبل، آملًا ضمّ مزيد من الأراضي.
شرع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باحتلال مجموعة مناطق من بينها دونتسيك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا بأوكرانيا، بموجب استفتاء أجراه في تلك المناطق تحت وطأة الضغط والإكراه، ما يُفقد استطلاعات الرأي هذه شرعيتها القانونية، وكأنما أهلية الشعوب القابعة تحت ضغط الخوف والتهديد معترف بها، مما أثار موجة من السخط الدولي للتعبير عن عدم الاعتراف بنتائجها.
فمحاولة الرئيس الروسي بإعادة رسم الحدود الأوروبية وتعديلها لن يكون بهذه البساطة والسهولة، ولم يكتفِ بوتين عند هذا الحدّ، بل اعتبر أن أي اعتداء على الأراضي التي قام بضمّها سيكون تعدًّ على سيادة روسيا، وسيكون الرد العسكري حاسما وقاسيا وسيدفع بموسكو لاستخدام اسلحة الدمار الشامل على اعتبارها تدافع عن حدودها الشرعية الجديدة.
إنّ هذا الموقف الروسي دفع بغالبية الدول الأوروبية والغربية وفي مقدمتها أميركا، على اعتبار أن هذه التهديدات التي أطلقتها موسكو تعبر عن مدى تهور بوتين ويجب أن تؤخذ على محمل الجدّ، على اعتبار أن هذه المحاولة هي الثانية في السنوات الثماني المنصرمة التي يحاول فيها بوتين تغيير حدود أوروبا، ولمواجهة التمدد الروسي يتوجب توحد الحلفاء من أميركا الشمالية وأوروبا لمواجهة هذه التهديدات العالمية، وإنّ إطلاق التعبئة الحزبية دليل على أن موسكو هي المعتدي الوحيد في هذا الصراع.
في حين يصرّ الرئيس الأوكراني على ضرورة انسحاب القوات العسكرية الروسية من أراضيه كبداية لبدء مفاوضات السلام فيما بينهم وهذا ما لم يستجب له بوتين.
رافقت هذه الحرب مجموعة من التغيرات والهزات المالية التي لم تكن كافية لتهدئة طرفي النزاع حيث وبحسب الخبراء والمراقبين، لعبت الحرب الروسية الأوكرانية وما أحدثته من ارتفاع غير مسبوق في أسعار الطاقة والمحروقات، دورا رئيسيا في هذا التراجع القياسي لليورو مقابل الدولار، خاصة في ظل الانكماش الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم في منطقة اليورو إلى أكثر من 5 بالمئة مع بداية العام الحالي، وهي أعلى نسبة للقارة الأوروبية منذ 30 عاما، بحسب آخر الأرقام التي نشرها مكتب "يورو ستات" للإحصائيات التابع للمفوضية الأوروبية.
واعتبر المحللون أن ضعف سعر اليورو ليس ناتجا بالدرجة الأولى عن ضعف منطقة اليورو أو الحرب، وإنما عن قوة الدولار وتزايد الطلب عليه في الأسواق العالمية، وهذا ما يدفعه لهذا الصعود الكبير.
إن أغلب أسعار الطاقة في السوق العالمية مسعّرة بالدولار، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي آليا إلى زيادة الطلب على الدولار، ونتيجة إلى كل ذلك أصبح الدولار ملاذًا آمنًا في السوق وزاد الطلب عليه.
رغم كل هذه الخضات المالية والكلفة العسكرية الباهظة لا تزال روسيا مصرة على أحقية غزوها ما يستدعي تحرك دولي سريع لفرض المزيد من العقوبات ضدّ روسيا، ودعم وتزويد الجيش الأوكراني بمزيد من الأسلحة التي تضمن صمود أوكرانيا وتفوقها على الغزو الروسي، فضلا عن مطالبة الدول النووية الأخرى كالصين والهند بتراجع بوتين عن تهديداته الغير مسؤولة.
وبالعودة إلى بداية انطلاق الحملة العسكرية على أوكرانيا، لعبت أميركا دورا خفيا في تأجيج أوكرانيا وتشجيعها على المواجهة، عبر تشجيع زيلينسكي وتعويمه، أميركا اليوم هي بمثابة الرابح الأكبر إزاء كل ما يجري وهذا ما عبّر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث اعتبر أن الحملة العسكرية مستمرة إلى إن تحقق موسكو أهدافها.
في المقابل حالة من التوجس الأوروبي لا تُخفى أيضا على أحد، كيف لا، وهي تدرك أن انهيار الروس يعني تسليم رقبة أوروبا لسيطرة شاملة وتامة من قبل واشنطن، وإقصاء روسيا عن قيادة التحكم كقوة موازية ورديفة يعني هيمنة مضافة لواشنطن على دول الاتحاد الأوروبي.
لابد من القول في النهاية إن اعتقاد البعض بأن الحرب الروسية الأوكرانية سيكون فتيل اشتعال الحرب العالمية الثالثة، فهو واهم، حيث أثبتت الأحداث أن الدول الكبرى غير مستعدة لهذه المخاطرة وتتخاطب فيما بينها بموجب وكالة تُمنح للدول الأكثر خصوبة لتأجيج الصراعات وحيث يُشهر كلّ طرف أسلحته العسكرية والاقتصادية.
ليبقى السؤال هل ورطت أميركا الدول الأوروبية في صراعها مع روسيا وهل سيتعظ بوتين ويتراجع عن حملته العسكرية في المدى المنظور أم أنّ حربًا عالمية ثالثة ستقرع طبولها قريبًا؟