لم تنته بعد الضربة التي تلقتها العملة البريطانية، الجنيه الإسترليني، من إعلانات السياسة الاقتصادية لحكومة رئيسة الوزراء ليز تراس ووزير خزانتها كوازي كوارتنج.
صحيح أن الإسترليني يشهد هبوطا في قيمته منذ بداية العام، وصلت نسبته إلى نحو 20 بالمئة، إلا أن انهيار العملة إلى قرب دولار للجنيه هو خط أحمر يدرك الجميع أنه قد لا يمكن عكسه فيما بعد.
لم يقتصر الأمر على انهيار سعر صرف الإسترليني، بل إن مؤشرات سوق لندن في هبوط، والأهم أن العائد على سندات الخزانة البريطانية ارتفع أكثر من 10 مرات في غضون أيام قليلة هذا الأسبوع. وبما أن العائد يتناسب مع سعر السند فهو يعكس انهيارا في أسعار سندات الدين السيادي البريطاني مع تخلص المستثمرين حول العالم منها خشية عدم قدرة بريطانيا على الوفاء بديونها الهائلة التي تنوي حكومة تراس زيادتها أكثر بالاقتراض لتمويل خفض الضرائب وغيرها من حزم دعم الشركات والأعمال.
واضطر بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) لإعلان التدخل في السوق يوم الأربعاء والبدء في شراء سندات الدين الحكومي، بعدما كان على وشك التخلص من السندات التي اشتراها في فترة أزمة وباء كورونا ضمن برنامج التيسير الكمي لتنشيط الاقتصاد.
تدخل البنك بسرعة وبشكل طارئ للحيلولة دون انهيار صناديق معاشات التقاعد التي يعتمد عليها الملايين ممن هم في سن التقاعد بعدما لم تجد الأسواق من يشتري سندات الدين السيادي البريطاني التي تستثمر فيها تلك الصناديق.
وكادت تلك الصناديق تخسر ما يصل إلى تريليون ونصف التريليون من استثماراتها نتيجة سياسات خاطئة من قبل الحكومة.
توضح كثير من سياسات حزب المحافظين الحاكم، حتى قبل مجئ تراس ومن أيام بوريس جونسون ومن سيقه، أنهم لا يكترثون بالمتقاعدين بل يسعون في كل تغيير في السياسة إلى تقليص أي ميزات لكبار السن بشكل عام.
تلك قناعات المجموعة المركزية الآن في الحزب التي روجت للأكاذيب لتخدع ابلريطانيين كي يصوتوا للخروج من أوروبا (بريكست) عام 2016. وإذا كان برويس جونسون ومايكل جوف ودومينيك راب يمثلون قيادة تلك المجموعة، فإن كوازي كوارتنج وجاكوب ريس-موج وجرانت شابس ومعهم رئيسة الوزراء هم "هوامش" مجموعة المتعصبين لبريكست.
لم تكن تلك السياسات الاقتصادية، التي وصفها حتى نواب حزب المحافظين بالمغامرة الكارثية، الجديدة سوى "مزايدة" من هؤلاء على أقرانهم من "عصابة بريكست" في حزب المحافظين ومحاولة لإظهار أنهم أكثر "محافظية" من جونسون ورفاقه.
تتسع ردود الفعل على الإضطراب الذي أحدثته توجهات الحكومة البريطانية في ألسواق العالمية، وبدأ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يطالبون البريطانيين بالتراجع عن تلك السياسات خشية تعميق الركود الاقتصادي العالمي.
صحيح أن وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين طمأنت الأسواق بأن احتمالات انتشار عدوى كارثة بريطانيا ليست كبيرة، إلا أن يلين عينها بالأساس على اقتصاد بلادها الذي يبدو حتى الآن المنتفع من أزمات الجميع: آسيا وأوروبا وحتى حليفتها بريطانيا.
فالأميركيون يتطلعون بكثافة الآن للاستحواذ على ما تبقى من الأصول البريطانية، التي أصبحت قيمتها منخفضة بشدة مع انهيار الإسترليني. وبدأ المصرفيون المسؤولون عن الصفقات في البنوك الاستثمارية في سيتي أوف لندن (حي المال والأعمال في العاصمة البريطانية) رحلات مكوكية بالطائرات الخاصة بين نيويورك ولندن لترويج فرص استحواذ صناديق استثمار أميركية على شركات كبرى باقية من شركة الصناعات الدفاعية بي إيه إي إلى شركة حكمة للصناعات الدوائية.
صحيح أن قيمة الأصول البريطانية في تراجع منذ عام 2016، وزاد الاستحواذ على الأصول البريطانية من قبل المستثمرين الأجانب في وقت أزمة كورونا حين كان سعر صرف الاسترليني يقارب دولارا ونصف. فما بالك الآن، والجنيه يقترب من دولار ويتوقع أن تصبح قيمته أقل من دولار بنهاية العام.
هذا ما دفع كثير من المعلقين والمحللين البريطانيين، حتى المحافظين منهم، لترديد أن "بريطانيا للبيع" الآن أكثر من أي وقت. يعزز ذلك الزيادة الهائلة في قيمة صفقات الاستحواذ العام الماضي للتجاوز الرتيليون دولار للمرة الأولى. ويتحدث البعض الآن عن امكانية وصول قيمة تلك الصفقات إلى ثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار.
إذا كانت بعض صفقات الاستحواذ والاندماج التي تضمنت ذهاب أصول بريطانية لأجانب في السابق القريب هي استيلاء شركات مماثلة على نظيرتها البريطانية، فالاقتناص الآن من نصيب صناديق استثمار خاصة تسعى فقط وراء الربح. فأن تبيع شركة لاند روفر مثلا لشركة هندية لصناعة السيارات، ستظل الشركة تنتج السيارات وقد تحتفظ ببعض مصانعها في بريطانيا موفرة فرص عمل للبريطانيين ومضيفة للناتج المحلي الاجمالي البريطاني. أما أن تبيع شركة أدوية كبرى لصندوق تحوط أو صناديق استثمار في الأسهم، من أميركا أو آسيا، فهؤلاء المستثمرون سيكون هدفهم الأول تعظيم الأرباح حتى لو عن طريق تقليص توسع الشركة وربما نقل أعمالها إلى بلد آخر أقل كلفة انتاج.
ليست هناك مشكلة في بيع الأصول، لكن الحكومة البريطانية الحالية لا تعنيها التبعات المستقبلية لسياسة عرض بريطانيا للبيع طالما أن ذلك سيجعلها تبقى في الحكم لمدة عام ونصف حتى موعد الانتخابات العامة مطلع 2024. هذا هو الخطر الحقيقي من السياسة الاقتصادية البريطانية الآن.