لم يقتصر فشل الرئيس الأميركي جو بايدن، في إدارة سياسة بلاده الخارجية مع أعدائها أو منافسيها فقط، كما هو الحال مع روسيا والصين وكوريا الشمالية.
فقد امتد هذا الفشل أيضا إلى أهم وأبرز حلفائها الأطلسيين والأوروبيين كما حدث مع فرنسا التي تسبب بايدن في خلق أكبر أزمة دبلوماسية معها منذ عقود على خلفية اتفاق "أوكوس" الذي خلف جرحا غائرا وندبا واضحا في العلاقات بين البلدين، وربما في مجمل العلاقات الأميركية الأوروبية، وصل إلى حد استدعاء فرنسا سفيرها في الولايات المتحدة، وهو ما اعترف به بايدن بنفسه لاحقا حين أقر بأن إدارته كانت "خرقاء" وتصرفها "افتقر إلى اللباقة" في تعاملها مع الصفقة التي حرمت فرنسا من عقود دفاع بمليارات الدولارات، كما أن بقية حلفاء أميركا الأوروبيين يعانون الآن من توريط أميركا لهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل سوى الانصياع لرغبة الحليف الأكبر.
ورغم أن خسائر طرفي الأزمة، روسيا وأوكرانيا، يمكن تبريرها وتسويقها داخليا، لكن خسائر الأطراف الأوروبية يصعب تسويقها داخليا رغم محاولات تبريرها خارجيا، فأوكرانيا يمكن أن تبرر خسائرها بأنها حرب مفروضة عليها، وأنها لم تختر توقيتها ولا مكانها، وأنها تخوضها حفاظا على وحدة أراضيها وسلامة شعبها، وهي المبررات التي يقدمها دائما رئيسها أمام شعبه رغم أنه سبب رئيسي في الأزمة، وروسيا يمكن أن تبرر عمليتها العسكرية في أوكرانيا على أنها ضرورة لأمنها القومي نتيجة لممارسات عدوانية وغير منضبطة من جارتها تهدد أمنها واستقرارها وتقرب أعداءها التاريخيين من حدودها، أو أنها صدت عدوانا محتملا بشكل استباقي، وكلا الطرفين نجح في ذلك إلى حد كبير، لكن قادة معظم الدول الأوروبية التي تضررت اقتصاداتها بشكل أكبر من الضرر الذي لحق بالاقتصادين الروسي والأوكراني فشلوا أمام شعوبهم في تبرير ما لحق بهم من ضرر نتيجة رهن مقدرات دولهم وشعوبهم للقرار الأميركي بفرض عقوبات اقتصادية على الجانب الروسي وشحن حرب تجارية شاملة عليه، إذ كيف سيقنع زعيم أوروبي شعبه أن معاناته من ارتفاع الأسعار أو نقص الطاقة أو ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والمشتقات البترولية إلى مستويات غير مسبوقة وصلت في المتوسط حتى نهاية مارس الماضي إلى 45% أو صعوبة السفر والتنقل أو صعوبة الحصول على المواد الغذائية، هي نتيجة مساندة بلاده لأحد أطراف حرب أبعد ما تكون عن حدوده وليست لها علاقة مباشرة بأمنه الشخصي أو أمن بلاده القومي، فلماذا إذا يدفع ثمنها من جيبه الخاص؟
ليس هذا فحسب، بل يمكن أن تكون لهذه الحرب تداعيات وجودية على بقاء الاتحاد الأوروبي ذاته وليس فقط على رفاهية شعوب دوله، ورغم تفاوت التقديرات على مدى تأثير العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو على اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي الـ27، فإنها تبدو ثقيلة حتى في أدنى مستوياتها، فوفقا لتقديرات مصلحة الإحصاء الأوروبي "يورو ستات"، فإن النمو الاقتصادي الأوروبي سيتعرض لخسارة تتراوح بين 0.5% و1% من ناتجه المحلي خلال العام الجاري، أي ما يتراوح بين 895 مليار دولار و1.79 تريليون دولار. المفارقة هنا أن هذه الخسارة المتوقعة خلال عام واحد أعلى بكثير من خسائر أوروبا خلال أربعين عاما كاملة نتيجة التقلبات المناخية، حيث تسببت العواصف والفيضانات وغيرها من التقلبات المناخية الشديدة، في أضرار اقتصادية بنحو نصف تريليون يورو فقط في أوروبا بين عامي 1980 و2020، حسب وكالة البيئة الأوروبية. هذا بالإضافة إلى التكاليف غير المباشرة مثل تكاليف الأمن والدفاع في دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني زيادة التمويل عبر الاستدانة، فألمانيا على سبيل المثال تنوي تحديث جيوشها بنحو تريليون دولار، وهناك دول أخرى تخطط لزيادات كبيرة في ميزانية الدفاع بسبب الخطر الروسي المزعوم. هذا بالإضافة أيضا إلى كلفة إعادة إعمار أوكرانيا المقدرة حتى اللحظة بنحو 600 مليار دولار، والتي ستلقى بكل تأكيد على عاهل الدول الأوروبية، ناهيك بتكاليف إيواء اللاجئين الأوكرانيين في الدول الأوروبية، والمساعدات التي ستدفعها أوروبا لمواطنيها من محدودي الدخل والفقراء لمواجهة فواتير أسعار الطاقة المرتفعة.
مع بدايات الأزمة، وتحديدا في مارس الماضي، قال الرئيس الألماني فرانك - فالتر شتاينماير إن بلاده صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا ستواجه فترات "أكثر صعوبة" جراء الهجوم الروسي على أوكرانيا، مؤكدا أن العقوبات ستؤدي لا محالة إلى قلاقل وخسائر "بالنسبة لنا". وأضاف: "سنواجه في ألمانيا أياماً أكثر صعوبة، والكثير من المشقات، ويجب علينا أن نكون مستعدين لتحملها، وكذلك استعدادنا لمواجهة قيود سيكون مطلوبا لفترة طويلة". معترفا بأن العقوبات المفروضة على روسيا لن يقتصر تأثيرها على الشركات الروسية فحسب، وإنما حتى على الشركات الألمانية، وهو نفس ما ذهب إليه سيغفريد روسورم رئيس الاتحاد الصناعي الألماني BDI، عندما توقع أن تتحمل الصناعة الأوروبية خسائر اقتصادية ضخمة خلال السنوات القريبة القادمة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والثغرات في سلاسل التوريد.
ربما كانت حسابات الرئيس الألماني في ذلك الوقت أن هذه الأزمة قد تنتهي سريعا، ومع ذلك توقع خسائر كبيرة للاقتصاد الألماني وأياما صعبة لشعبه، لكنه ربما لم يتوقع أن يكون التأثير إلى هذا الحد، حيث قدر خبراء اقتصاد الخسائر الاقتصادية لألمانيا التي قد تنجم عن وقف واردات الطاقة الروسية بنحو 3 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي، في ظل اعتماد ألمانيا بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية، وفي ظل صعوبة وتعقد مسألة استبدال واردات الغاز الروسي، ويبدو أن ألمانيا ستعيش مع الشتاء المقبل أياما أكثر صعوبة مما توقعه رئيسها إن لم تحافظ على استقلالية قرارها السياسي والنظر إلى مصلحة الشعب الألماني أولا والتعامل بشكل أكثر برجماتية وعقلانية مع ضغوطات الجانب الأميركي الذي لديه أسبابه الخاصة بإطالة أمد الأزمة إلى أطول فترة زمنية ممكنة، وهي الأسباب المدفوعة برغبته في حصار روسيا وإهانة كبريائها، لا تحرير أوكرانيا ولا دفاعا مزعوما عن "عالم حر" لا يوجد سوى في المخيلة الأميركية.
ربما يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد بدأ يدرك أخيرا خطورة الارتهان لرغبة الإدارة الأميركية الديمقراطية في تصفية حساباتها التاريخية مع عدوها التقليدي روسيا، عندما قال إنه من أجل "إنهاء الحرب التي يشنها الجيش الروسي في أوكرانيا يجب بناء السلام من دون إذلال روسيا"، ربما لأن الرئيس الفرنسي أصبح يدرك أن الرغبة الأميركية في إذلال روسيا لن تتحقق إلا عبر إذلال أوروبا أولا بتدمير اقتصاداتها والاستيلاء على قرارها السياسي، وهذا ما لن تقوى عليه أوروبا ولن تقبل به شعوبها، ولا ستسمح به روسيا وقيادتها.
هذه كانت مجرد أمثلة من حصيلة "القيادة العالمية" لأميركا في ظل عام واحد فقط وثمانية أشهر من حكم بايدن، وبالتأكيد ليس هذا ما يطمح فيه الناخب الأميركي في الداخل، ولا ما ينتظره حلفاء واشنطن في الخارج، فهل يحمل العامان والنيف المتبقية من حكم بايدن تغييرا يعالج كل هذه السقطات؟ أم أن التغيير سيأتي من خلال صندوق انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر المقبل، وصندوق الانتخابات الرئاسية في 2024؟