تكتظ مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات على أحداث دامية ومؤلمة واضطرابات متنقلة في دول تتغنى بانتصاراتها وبامتلاكها الحق والحقيقة والعدالة وبقدرتها على مواجهة المؤامرات الكونية التي تستهدف كيانها وعراقتها وثقافتها وقوميتها.

حتى أنه يُخَيَّل لمن يتابع هذه التعليقات، سلبية كانت أم إيجابية، بأن الانقلابات قاب قوسين وأدنى، وأن الثورات نضجت وآن أوان قطاف رؤوس الأنظمة في الدول التي تدور فيها هذه الأحداث.. أو أن الأنظمة "العادلة" تمكنت من إحباط المؤامرة وقطع دابرها وأعادت الأمور إلى نصابها وأغرقت شعوبها بالنعيم وأنقذتها من الضلال بجرعات من الكرامة والعزة والعنفوان..

لكن التعليقات في مكان، والوقائع وحساباتها في مكان آخر.

صحيح أن أركان الأنظمة التعسفية والقمعية تهتز مع المواجهات والجرأة في التعبير عن رفض الظلم والقهر، وبمنسوب أعلى في كل جولة من جولات التحرك الشعبي. لكن الصحيح أيضا أن هذه الأنظمة لا تسقط، وان سقطت يحل محلها الخراب والفوضى والاقتتال، أو تعود بلبوس آخر مقنع، ولكن بالمقاييس ذاتها.

حتى أن الهروب من الموت الذي تفرضه الأنظمة إلى موت تتسبب به الأنظمة إياها، لم يؤد إلى التغيير المأمول والذي يفترض أن يفضي إلى عدالة ما تنصف الشعوب المحكومة بالظلم والقهر.

وبين الثورة على قتل امرأة بسبب حجاب سيء، وبين مغامرة الهجرة غير الشرعية بإلقاء المقهورين أنفسهم في البحر من دون ضمانات أمان، لا شيء يوحي بالخلاص.

ووسائل القمع وتحوير أساس الثورة بالعنف وترويج الشائعات واللعب على وتر الانتماء الديني في تلك الأنظمة هي بحد ذاتها "آيات شيطانية" لمن يدقق فيها ويحلل وسائلها وسبل تطبيقها.

هل يعني ذلك أن على الشعوب الاستسلام؟

سؤال يجب أن يُطرح، إلا أن الجواب لا يزال في علم الغيب.. أو هو في علم جديد تتقنه السلطة التي تشتغل دائما على خطين:

الأول هو التحكم بالقاعدة من خلال القبضة الأمنية والمخابراتية والقمع والتكفير والتخويف والفقر والتيئيس والاعتقالات العشوائية وإزهاق الأرواح عندما يقتضي الأمر ذلك.

والثاني هو التهويل على الخصوم الدوليين، وتشكيل محاور محكومة بالتناقضات، فلا يعود يعرف المتابع لها من صديق من ومن خصم من؟؟!!

على الأقل هذا ما بينته التطورات التي تلت انعقاد قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" في أوزبكستان مطلع الشهر الحالي، والتي ترافقت مع تجدد اندلاع مواجهات دامية في منطقة جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، ومع وقوع اشتباكات مسلحة على الحدود بين دولتين مؤسستين للمنظمة هما طاجيكستان وقرغيزستان، ناهيك عن المواقف الخالية من التعاون والتي أظهرت عدم التآلف والتحالف بين بعض أعضائها، كما دلّت التصريحات الصادرة عن الهند والصين وتركيا بشأن حرب روسيا وأوكرانيا.

وهذا ما أظهرته التناقضات التي شابت خطابات قادة دول "المعسكر الشرقي" في مجلس الأمن، عندما هددوا وتوعدوا الولايات المتحدة الأميركية، وتغنوا بقوتهم وقدراتهم النووية، في حين كانت الاضطرابات تسود بلادهم، سواء في إيران التي تمتد فيها الاحتجاجات الشعبية، وتُقطع عنها سبل الاتصالات مع العالم الخارجي ويرتفع عدد القتلى والمعتقلين والمفقودين، أو في روسيا التي شهدت تظاهرات رافضة للتعبئة الجزئية للمدنيين، بالإضافة إلى حركة السفر الواسعة، وفق بيانات شركات الطيران ووكالات السفر الأسبوع الماضي.

وبين الخطين لا تتوقف المواجهات بين الشعوب والأنظمة، ما يساهم في تراكم الخبرات، خبرات الشعوب وخبرات الأنظمة. في المقابل يتراكم غموض العلاقات الدولية والمحاور والتحالفات. ويبهت النظام العالمي والقانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتختلط الأمور وتستعر النار في غياب مفاوضات وحوارات يمكن أن تخفف بؤر التوتر بين المعسكرات والمحاور.

وهذا الغموض، تحديدا، هو ما يحول دون بلورة التغيير المطلوب والمؤدي إلى إرساء أسس منظومات جديدة للحكم في دول تترنح أكثر فأكثر.. ولكنها لا تسقط!!