مؤخرا استطاعت القوات الأوكرانية أن تشن هجوماً مباغتاً في شمال شرق البلاد، في منطقة خاركيف، استطاعت عبره دحر القوات الروسية وأن تستعيد بضعة آلاف من الكيلومترات من أراضيها التي احتلتها القوات الروسية.

 في شن هذا الهجوم، أظهر القادة العسكريون الأوكرانيون الكثير من البراعة التي أدهشت حتى حلفائهم الغربيين، عندما قام الأوكرانيون بعملية تضليل ناجحة للروس ببدئهم هجوماً في جنوب البلاد لانتزاع مدينة خيرسون من القبضة الروسية بحيث نقلت روسيا بعضاً من قواتها من الشمال الشرقي لصد هذا الهجوم.

استغلت القوات الأوكرانية ضعف الدفاعات الروسية بعد سحب بعض أفضل قطعاتها لصد هجوم الجنوب، لتقوم بهجوم خاطف في هذه المنطقة وتلحق بها الهزيمة بالقوات الروسية التي اضطرت للإنسحاب على نحو فوضوي وسريع تاركةً وراءها الكثير من المعدات، فيما يتواصل الهجوم الأوكراني الآخر في الجنوب على نحو بطيء.

على مدى أشهر، رَجَّحت توقعات الكثير من المراقبين الغربيين، بينهم عسكريون في دوائر صنع القرار، في عواصم غربية حليفة لكييف أن أقصى ما تستطيع أوكرانيا فعله في هذه الحرب، ويعتبر نجاحاً لها، هو أن توقف التقدم الروسي بجعله مُكلفا بشرياً ومادياً. عبر هذا يمكن لأوكرانيا استنزاف روسيا وصولاً إلى تفاوض تال معها قد يقود الى اقناعها بالتخلي عن الأراضي التي سيطرت عليها، وذلك في إطار صفقة أوسع لإحلال السلام بين البلدين. لكن هجوم خاركيف أثبت أن بمقدور أوكرانيا تحقيق النصر وتحرير الأرض، بمعنى قدرة أوكرانيا على أن تكون نداً عسكرياً لثاني أكبر قوة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة.

المثير في النصر الأوكراني ليس فقط في معناه العسكري في سياق الحرب الحالية مع روسيا، بل في معنى التحول الهائل في أوكرانياً في سياق بروز الوطنية فيها وإعادة ترتيب الدولة الناشيء عنها على نحو ساهم في صناعة لحظة التميز الأوكراني الحالي. لفهم قيمة هذا التحول، من المفيد مقارنة رد فعل أوكرانيا في 2014 على غزو روسيا لشبه جزيرة القرم في نهاية فبراير وضمها لروسيا في استفتاء في الشهر التالي لم يعترف به العالم.

حينها، لم تقاتل القوات الأوكرانية واكتفت بالانسحاب منها من دون قتال. ثم تبع ذلك في شهري أبريل ويونيو مباشرةً عمليات مدعومة من روسيا قام بها أوكرانيون من أصل روسي للسيطرة على مناطق لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس شرق أوكرانيا لم يستطع الجيش الأوكراني غير المستعد حينها أن يمنعها.

كانت تلك الأحداث التي اعقبت ما سمي بثورة الميدان في أوكرانيا وأطاحت برئيس أوكرانيا القريب من روسيا سريعةً وصادمة لأوكرانيا بدت عاجزة تماماً عن أن تحمي أرضها. لكن من جانب آخر، استفزت هذه الأحداث، على نحو بطيء وتصاعدي، حساً بالوطنية الأوكرانية برز في المجتمع جهد جدي للتعويض عن ضعف الدولة. ففي شهر يونيو تشكلت مجموعة آزوف العسكرية، كأحد أنواع الميليشيات، خارج اطار الدولة لمحاربة السيطرة المدعومة روسياً في إقليم دونباس التي أنشأها وقادها حينها سياسي أوكراني متطرف، مشهور بعدائه للروس، اسمه اندريه بيلتسكي، وتخلى عن قيادتها فيما بعد.

على مدى السنوات المقبلة، ستثير هذه المجموعة الكثير من اللغط على أساس وصف دوائر إعلامية وحقوقية كثيرة لها بانها مجموعة متشددة يمينياً وتمثل النازية الجديدة. في خضم النقاش المستمر بخصوص هذه المجموعة الذي اختلطت فيه الحقائق بالأوهام والدعاية السياسية بحيث ضاعت، خارج أوكرانيا، التحولات التي مرت بها هذه الحركة ودورها في صناعة حس جديد بالوطنية الأوكرانية القائمة على التحدي العلني والمباشر روسيا بوصفها الخصم التقليدي والتاريخي لروح استقلالية اوكرانية ترى الحركة أنها تعرضت إلى إنكار واضطهاد روسيين منهجيين عبر التاريخ.

بهذا الصدد، تنتمي آزوف في جذورها وتشكلها وجزء مبكر من تاريخها الى حركة أيديولوجية يمينية متطرفة أوكرانية، أقلوية الطابع، تختلط فيها قيم مسيحية وسياسية أوكرانية تقوم على خصوصية محلية متفوقة، تورطت، حالها حال حركات اليمين المتطرف في الغرب، بتعبيرات وسلوكيات عنصرية. لكن الرأي العام الأوكراني، في ساعة العسر التي كان يعيشها البلد وضعف جيشه وضياع جزء من أرضه، لم يكن مهتماً بهذه التعبيرات ولا الجذر الأيديولوجي الإشكالي لهذه الحركة، بل بمساهمتها المهمة حينها في ترميم ثقة الأوكرانيين بأنفسهم من خلال الرد العسكري الذي تولته المجموعة على القوات الموالية للروس المُسيطرة على لوغانسك ودونيتسك. في نهاية عام 2014 قامت الحكومة الأوكرانية رسمياً بدمج هذه المجموعة المسلحة في الحرس الوطني الأوكراني وأدخلت، على مدى السنوات القليلة التالية، إصلاحات تدريجية في المجموعة عبر إزالة العناصر المتطرفة وفصلها عن الأيديولوجيا اليمينية المتشددة التي نشأت فيها.

كان هذا الدمج والتغييرات التدريجية الذي تبعته جزءاً من جهد إصلاحي أوسع، منهجي ومستمر، تولته الدولة الأوكرانية للاستفادة من أخطاء العام 2014 لإعادة تشكيل القوات المسلحة الأوكرانية على أسس جديدة بعيدة عن الأسس التقليدية المستقاة من التقاليد العسكرية السوفياتية بتأكيدها على هرمية صارمة وطاعة غير مشروطة للأعلى الذي يُحصر به اتخاذ القرار، على الأدنى الذي تتلخص مهمته بالتنفيذ فقط.

قام هذا الجهد على إعادة تدريب القوات المسلحة الأوكرانية في إطار شراكة وثيقة مع الجيوش الغربية، وبالذات الأميركية. استمرت هذه الشراكة على مدى سنوات لترسيخ قيم جديدة في فهم القوات الأوكرانية لنفسها وكيفية تأدية مهماتها يقوم على التخفيف من مركزية القرار الصارمة المحتكرة تماماً في الأعلى لصالح قرارات محلية يتخذها الأدنى على أساس حاجات اللحظة السريعة والمتبدلة التي لا تستطيع انتظار قرارات مركزية علوية.

عنت الحماسة الوطنية الأوكرانية في سنوات حرب الاستنزاف بين الجيش الأوكراني والقوات الموالية لروسيا في إقليم الدونباس، المزيد من الابتعاد عن روسيا والغضب منها، والتأكيد الندِّي للخصوصية الأوكرانية، ثقافياً وسياسياً وحتى دينياً، بإزائها. لم تنتبه روسيا لكل هذه التحولات المهمة التي كان تمر بها جارتها الغربية الأصغر حجماً، وتصورت أن سلوك 2014  سيتكرر في 2022 بحيث لن يقاتل الأوكرانيون مرة ً أخرى.

لكن ما حصل كان مختلفاً تماماً إذ قاتلوا بشجاعة استثنائية، مستفيدين من الدعم العسكري الغربي، وفي إطار زعامة رئاسية تصرفت بشكل قيادي شجاع ايضاً. عندما اتصل الأميركان بالرئيس فلوديمير زيلنسكي عند بدء الاجتياح الروسي في فبراير، عارضين عليه نقله من العاصمة كييف إلى مكان آخر لتأمينه. كان رده لافتاً وملهماً لبقية مواطني بلاده: "المعركة هنا، أحتاج العتاد وليس النقل إلى مكان آخر." لم يكن هذا الرد منفصلاً أو مستقلا عن روح عامة وطنية أوكرانية. في تلك اللحظة كان الرئيس ممثلاً أميناً لروح الشعب تلك التي فتحت تالياً مسار النجاح العسكري.