الصمود الذي أبدته أوكرانيا في وجه القوات الروسية، والتضامن الشعبي مع القيادة السياسية والجيش، والدعم الدولي المنقطع النظير لها، دفعت هذه الدولة، التي أثيرت الشكوك حول تميزها القومي ووحدة أراضيها، للتمسك باستقلالها والسيادة الكاملة على أراضيها.

استعادة أوكرانيا لمدينة خاركيف، عبر هجوم مضاد بدأ في الخامس من الشهر الجاري، هو أول دليل تقدمه هذه الدولة للعالم، بأنها ليست مصطنعة، كما ادعى الروس، وأن شعبها ليس روسيَّاً، وإنما له هوية قومية متفردة، وأن قيادتها ليست نازية، وإنما وطنية وتتمتع بشعبية متزايدة.

وبالإضافة إلى استعادة خاركيف، تمكنت القوات الأوكرانية من السيطرة على مدينتي إزيوم، الواقعة على نهر دونست، وكوبيانسك، وكلتا المدينتين مهمتان لوجستيا واستراتيجيا، لأنهما تمثلان ملتقى الطرق البرية والنهرية التي تربط إقليم دونباس بباقي أوكرانيا، ولا يمكن روسيا أن تتقدم عسكريا في دونباس دون أن تسيطر على هاتين المدينتين. ويقول الأوكرانيون إنهم عثروا على مقابر جماعية في إزيوم وأدلة على وقوع تعذيب للمقاومين الأوكرانيين، ولا شك أنه سوف يستخدم في تقديم دعوى ضد روسيا بارتكاب جرائم حرب.

كانت روسيا تخطط لأن تجري "استفتاء" بهدف ضمها، كما فعلت مع شبه جزيرة القرم عام 2014، لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك الآن، بل صار وجودها في أوكرانيا قلقا، خصوصا بعد الخسائر التي تكبدتها مطلع سبتمبر. وتشير تقديرات نشرتها مجلة الإيكونوميست إلى أن القوات الروسية قد تكبدت حوالي 70 إلى 80 ألفا بين قتيل وجريح منذ فبراير الماضي، وأن روسيا تجد صعوبة في استبدالهم بقوات كافية لمواجهة القوات الأوكرانية، ذات التسليح والتدريب المتفوق بفضل الأسلحة الأمريكية والغربية المتطورة.

القوة الجوية الروسية لم تعد قادرة على إصابة أهدافها بسبب الدفاعات الأوكرانية المتطورة التي حصلت عليها من الولايات المتحدة وبريطانيا، وفي الوقت الذي تتناقص فيه مستودعات الذخيرة الروسية، بسبب استمرار الحرب، تتراكم الذخائر والأسلحة المتطورة في مستودعات أوكرانيا التي تنهال عليها من الدول الغربية والشرقية المساندة لها.

اعتمدت الخطة الروسية على افتراضات لم تتحقق على أرض الواقع، منها أن المقاومة الأوكرانية سوف تنهار بسرعة، وأن الجيش الأوكراني سوف يستغل الفرصة ويطيح بحكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الأمر الذي يمكِّن روسيا من دعم الحكومة العسكرية الجديدة، التي ستحوِّل أوكرانيا إلى دولة حليفة، مثل بلاروسيا. وقد خاطب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتِن، الجيش الأوكراني مباشرة قائلا "إنْ تسلمتم السلطة فيمكننا أن نتفاهم معكم".

كما افترضت الخطط الروسية أن الولايات المتحدة ستكتفي بالإدانة وربما تفرض عقوبات طفيفة على روسيا، كما فعلت عند احتلال شبه جزيرة القرم، أما الدول الأوروبية فستكتفي بالإدانة اللفظية، لأنها لا تستطيع أن تستغني عن الغاز الروسي، الذي تعتمد عليه اعتمادا كبيرا في تسيير صناعاتها وتنمية اقتصاداتها.

لكن تلك الحسابات كانت خاطئة، فهناك مبادئ ثابتة لدى الدول الغربية، تشكل الأسس التي تقوم عليها مجتمعاتها، وهي، إلى جانب الاقتصاد الحر والحريات العامة والديمقراطية، رفض التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، وبالتحديد القريبة منها جغرافيا وثقافيا، خصوصا إذا كان التدخل يهدف إلى توسيع نفوذ دولة معادية عبر القوة العسكرية.

هناك عامل آخر، أهمله الروس، أو تناسوه، وهو أن الشعب الأوكراني، كأي شعب آخر، يلتف حول حكومته حينما يتعرض بلده إلى غزو خارجي، ومن هذه الناحية فإنهم ساهموا في تعزيز سلطة الرئيس زيلنيسكي الذي أصبح في نظر كثيرين، بطلا قوميا وقائدا للتحرير، خصوصا وأن الدعاية الروسية اتهمته بأمور غير صحيحة، فالرجل ليس نازيا، بل هو من ضحايا النازية باعتباره من أصول يهودية. كما اتهموا حكومته باضطهاد القوميات غير الأوكرانية، وهذا هو الآخر غير صحيح فأوكرانيا منفتحة على العالم ولو كانت هناك تجاوزات، لما خفيت عن وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان العالمية.

كذلك من الصعب أن يصدق أحد، حتى الروس، بأن أوكرانيا، التي لم تكن لها توجهات عسكرية، بل لم تتخذ أي إجراء عسكري حتى بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، يمكن أن تهدد دولة قوية مثل روسيا، خصوصا وأنها تخلت طوعا عن سلاحها النووي عام 1994، في اتفاقية بودابست التي قدمت فيها كل من روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين ضمانات لأوكرانيا بصيانة سيادتها واستقلالها.

أما تفكير قادتها بالانضمام إلى حلف الناتو، فقد جاء بسبب احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وهو دليل على ضعفها أمام روسيا، تماما مثلما كانت دوافع معظم دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى حلف الناتو، لحماية استقلالها من التهديدات الروسية.

أوكرانيا ما تزال تمتلك القدرة التقنية التي تمكنها من تصنيع السلاح النووي، إضافة إلى البنية الأساسية المطلوبة لتخصيب اليورانيوم، وربما أقدمت، على الأقل منذ بدء الحرب الروسية، على إجراء مثل هذه الاستعدادات، خصوصا بعد التلويح الروسي باستخدام ترسانتها النووية، ما يعني أن أي استخدام روسي للسلاح النووي، يمكن أن تقابله أوكرانيا بالمثل.

إضافة إلى ذلك، فإن العديد من دول العالم تمتلك السلاح النووي، وأي استخدام روسي له، سوف يستقطب ردود أفعال عالمية لن تكون في صالح روسيا، أو الرئيس بوتِن شخصيا، ما يعني أن روسيا لن تُقْدِم على استخدام السلاح النووي.

ما هي خيارات روسيا إذن بعد أن أصبح واضحا أن أوكرانيا استعادت قوتها على الرد؟ وهل الاستمرار في الحرب يمكن أن يؤدي إلى أي نتيجة تبتغيها روسيا، أم العكس؟ يمكن روسيا أن تواصل الحرب وتعبئ قواتها من أجل الصمود في دونباس، لكن إلى متى يمكنها أن تتحمل الخسائر في الأرواح والمعدات؟ صحيح أنها قادرة على تكبيد أوكرانيا خسائر مماثلة، ولكن ما الذي تحصل عليه من وراء هذه العملية؟

الموقف الدولي، بما في ذلك الصيني، أصبح واضحا، وهو ضد استمرار روسيا في مغامرتها الأوكرانية، وقد بدا ذلك واضحا في القمة الأخيرة لدول "منظمة شانغهاي للتعاون" في أوزبكستان. الرئيس بوتن أشاد (على مضض) بالموقف الصيني الذي وصفه بأنه "متوازن"، أي أنه ليس داعما لروسيا، وهذا أفضل ما تطمح إليه روسيا في الحقيقة! فالصين كدولة عظمى مسؤولة وملتزمة بالقوانين الدولية، لا يمكن أن تقر غزو، أو احتلال، أي دولة مستقلة، فهي لم تُقْدِم على ضم تايوان، التي يعترف معظم دول العالم بأنها جزء من الصين. إضافة إلى ذلك فإن مصلحة الصين تقتضي التعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا وباقي دول العالم الغربي. صحيح أنها استخدمت الورقة الروسية ضد الغرب، لكن هناك حدودا لمثل هذا الاستخدام.

اعترف بوتِن ضمنيا بأن العقوبات الغربية على روسيا بدأت تلحق أضرارا بروسيا، عندما اتهم الدول الغربية بـ"الأنانية" لأنها رفعت العقوبات جزئيا كي تحصل على الأسمدة الروسية، لكنها "لم تكترث لدول العالم النامي"، واعدا بأنه مستعد لتقديم 300 ألف طن من الأسمدة الروسية، العالقة في الموانئ الأوروبية، مجانا إلى دول العالم النامي إن رفعت أوروبا العقوبات عن روسيا.

هناك دعوات لأن تميِّز العقوبات الغربية بين الشعب والحكومة الروسيين، فإن لم تفعل، فإنها ستعطي نتائج معاكسة، لأن المطلوب هو التفريق بين الاثنين كي لا يشعر الروس بأن الغرب يعاديهم، فيتضامنون مع الحكومة. حتى الآن، لم تتأثر روسيا تأثرا كبيرا بالعقوبات، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة بسببها، لكنها ستتكبد أضرارا هائلة على الأمد البعيد.

المعارضة للحرب داخل روسيا بدأت تشتد، لكن محاولات قمعها تشتد أيضا، بما في ذلك التخلص من المعارضين، في الداخل والخارج، وآخر الذين دفعوا حياتهم ثمن انتقاد الحرب، كان مدير شركة "لوكويل" الروسية، رافيل ماغانوف، الذي "سقط" من نافذة مستشفى في موسكو، حسب وكالة رويترز. لكن القمع لم يمنع مطالبة سياسيين محليين في موسكو وبطرسبرغ باستقالة الرئيس بوتن، حسب مجلة الإيكونوميست.

آخر المحتجين على الحرب هو المطربة الروسية الشهيرة، ألا بوغاتشوفا، التي طالبت الحكومة الروسية بأن تصنفها "عميلة أجنبية" كما فعلت مع زوجها، المطرب والصحفي التلفزيوني الشهير، ماكسيم غالكين، الذي أدرجته وزارة العدل الروسية ضمن قائمة "العملاء للأجنبي". وقالت بوغاتشوفا إن زوجها "وطني من مستوى رفيع وهو غير قابل للإفساد، وكل ما أراده هو وضع حد لموت الشبان الروس من أجل تحقيق أهداف وهمية" حسب وكالة أسوشيتيد برس وبي بي سي.

القائد الشيشاني، رمضان قادروف، الذي حارب بقوة إلى جانب القوات الروسية، انتقد بشدة الوضع العسكري الروسي الحالي، داعيا إلى تعبئة عامة خلال الخريف لتعزيز الموقف العسكري. كما أرسل في العاشر من سبتمبر الجاري 1300 جندي إلى خيرسون لتعزيز القوات الروسية، حسب إعلان القوات المسلحة الأوكرانية.

أصبح واضحا أن الحرب الروسية الأوكرانية لا يمكن أن تحسم على الأرض، وبينما تتعز قدرات أوكرانيا العسكرية، فإن قدرات روسيا على تحقيق نصر جديد، أو البقاء دون تكبد خسائر فادحة، آخذة في التضاؤل. لذلك، فإن هذه الحرب لن تأتي بغير المزيد الخسائر البشرية والمادية على الجانبين. ولكن كيف يمكن أن تتوقف هذه الكارثة، التي ألمت بالعالم وأربكت الجهود الدولية لمواجهة المشاكل الأخرى التي تتهدد العالم، كالكساد والإرهاب والأمراض المعدية والتلوث البيئي والفقر؟

يمكن الصين أن تلعب دورا في حلها، لكنها لن تفعل دون التوصل إلى حلول للمشاكل العالقة بينها وبين الدول الغربية. الهند هي الأخرى تتفرج، بل تحاول استغلال العقوبات على روسيا عبر إبرام عقود لشراء الطاقة بأسعار متدنية. إيران تساند روسيا وتزودها بطائرات مسيرة (انتحارية)، حفاظا على تحالف البلدين في سوريا وأرمينيا، رغم تضررها من عدم العودة إلى الاتفاق النووي الذي كان سيحقق لها قبولا في المجتمع الدولي وعودة إلى أسواق الطاقة.

الرئيس بوتِن غير قادر، على ما يبدو، على تحمل الهزيمة تحت أي ظرف، وإلا فإن الظروف مواتية له الآن للتراجع قبل فوات الأوان، والادعاء بأن الحرب قد "حققت أهدافها" وأن أوكرانيا لم تعد قادرة على تهديد روسيا.

المتوقع أن النصر الأوكراني الكلي على روسيا، وإن كان ممكنا على الأمد البعيد، لن يخدم أوكرانيا ولا الدول الغربية حاليا، لأنه قد يقود إلى تهور روسي غير محسوب.

أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون سوف يلعبون على عامل الوقت وتحقيق انتصارات جزئية على روسيا وإضعاف جيشها وقدرته على الصمود، وفي الوقت نفسه السعي لتشجيع حلول داخلية روسية عبر تشجيع المنشقين والمعارضين الروس، وعزل روسيا اقتصاديا وسياسيا، الأمر الذي يعقد الأمور أكثر فأكثر على الرئيس الروسي ويسهل إزاحته عن السلطة وتغيير وجهة السياسة الروسية.