وُضِعَت عبارة "جهات خارجية"، في جملة مفيدة على لسان وزيرين من حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، خلال الأحداث التي شهدها لبنان مع إطلالة شهر أيلول (سبتمبر).
المرة الأولى نطق بهذه الجملة وزير العدل فكتور خوري، وذلك لتوصيف تحرك أهالي ضحايا جريمة مرفأ بيروت الذين حاولوا اقتحام منزله معترضين على قراره بتعيين قاضٍ رديف للمحقق العدلي الأصيل في الجريمة، بغية اغتيال الملف وركنه في درج النسيان.
والعبارة إياها وردت في جملة لوزير الداخلية بسام مولوي يوم الجمعة الماضي، وهو يستنكر محاولات المودعين في المصارف اللبنانية استيفاء حقهم والحصول على أموالهم المنهوبة بجهودهم الشخصية.
وهذه العبارة ليست اختراعا لبنانيا. ولطالما اتخذت ذريعة لأجهزة الأمن في دول ديكتاتورية قمعية خانقة للحريات، بغية إخماد نبض أي صوت معارض. ولطالما اعترى استخدامها استسهال لتركيب تهم جاهزة معلبة، واستخفاف بعقول الشعوب وأرواحهم وتبرير وتخويف وتخوين حتى يستتب الأمر للحاكم والنظام.
أما في لبنان، فجهة الاستعمال مختلفة. وهي تعني فشل دولة بمؤسساتها عن القيام بواجبات بديهية تجاه مواطنيها، ليس بسبب العجز أو قلة الخبرة، وهما متوفران للأسف، ولكن لأن يدا خفية تقود هذا الفشل وتبرمجه وتشغِّله حيث مصلحة من يحركها.
بالتالي فإن اتهام مفجوعين ومتضررين بأن "جهات خارجية" تحركهم يصبح قمة التضليل، وتحديدا عندما يتعمد المسؤولون إهمال الحلول القانونية، وترك الأزمات تتفاقم والغضب يتصاعد وصولا إلى اعتماد الاحتجاج "الخشن" لتحصيل الحقوق والسعي إلى عدالة مفقودة.
ففي جريمة تفجير المرفأ كان يكفي ترك القضاء يأخذ مجراه، فيتابع القاضي "المغضوب عليه"، الذي تسلم الملف من زميل له "مغضوب عليه" بدوره، ويقوم بعمله وفق الأصول، ليصل إلى خواتيم التحقيق ويقدم قراره الظني.
وفي مسألة احتجاز ودائع اللبنانيين، أيضا كان يكفي أن يصدر مجلس النواب قانونا يرفعه إليه مجلس الوزراء منذ بداية الأزمة المالية، ينظم من خلاله عمل المصارف وطريقة إعادة الأموال التي استخدمتها الدولة اللبنانية لتمويل فسادها.
لم يكن من داعٍ لأن يبقى التعطيل سيد الموقف، بحيث تصبح الوسائل غير القانونية السبيل الوحيد لاستيفاء الحق.
ولم يكن من داعٍ لإيصال المفجوعين بمقتل أحبتهم، أو المتضررين من حجز أموالهم إلى اعتماد خطوات أجبرهم يأسهم على اللجوء إليها، وكذلك كفرهم بالدولة ومؤسساتها، بحيث قرروا أنهم لن يتركوا الأمور رهينة إرادة المنظومة المرتكبة لكل الجرائم التي تنكل بهم.
ولا يعود بعيدا عن المنطق، مطالبة لجنة أهالي ضحايا تفجير المرفأ بلجنة تقصي حقائق دولية، بعد أن وصلوا إلى معركة واضحة عنوانها تضليل التحقيق، رغم كل محاولات القاضي الأول فادي صوان وزميله طارق البيطار المضي في التحقيقات بالرغم من التهديدات التي تلقوها، ومن "جهات داخلية" معروفة.
فقد تيقَّن "وكلاء الدم" أن جرأة القاضي لم تعد كافية اليوم، في ظل غياب الحماية الكافية لاستقلالية التحقيق. لاسيما أن التجاوزات المستمرة، أكدت أن القضاء اللبناني لم يعد يعوّل عليه.
كما تيقَّن المودعون أن كل المسكّنات التي اختار حزب المصرف أن يضخّها في شرايين المجتمع اللبناني خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تعد فعالة. فقرر البعض مواجهة إضاعة الوقت لتذويب ودائعهم، التي تجيدها "الجهات الداخلية "المختصة للتخلص من مسؤولية إعادة هذه الودائع.
وإزاء هذا الواقع يأتي وزيران يمثلان العدالة والأمن، عوضا عن وضع النقاط على حروف الوجع واليأس لمن يحاول أخذ حقه بيده، يسارعان إلى اتهام المتضررين والمفجوعين بتنفيذهم أجندات تخدم "جهات خارجية". ويتسلحان في اتهامهما إلى التحذير من انفلات أمني يؤدي إلى فوضى قد تكون القوى الأمنية غير قادرة على ضبطها. ويتجاهلان ومن خلفهما أركان المنظومة السياسية برمتها، أن ما يحصل هو طبيعي ومنتظر، ومتوقع أن يستمر، وان الانفلات الأمني سيزداد يوماً بعد يوم ككرة ثلج تكبر، ليس فقط بسبب الفقر والحاجة، وإنما بسبب القهر والظلم.
ولعل التحذير في محله، ولعل استغلال "جهات خارجية" لمن كفر بالحصول على حقه من "جهات داخلية" محتملا، وتحديدا لأن من يتولى السلطة في الداخل لم يكن يتلكأ عن القيام بواجبه، بحسب ما يطيب للبعض أن يوَصِّف إحجام المسؤولين عن القيام بواجباتهم ومعالجة الملفات الساخنة.
ذلك أن كل ما جرى ويجري لترسيخ الانهيار وغياب العدالة هو مبرمج وممنهج ومن فعل فاعل بتعمد وتخطيط، وليس بسبب عدم الكفاءة أو الجهل بالشيء أو الإهمال.
بالتالي، يمكن التأكيد على أن هذه "الجهات الداخلية" هي وحدها ودون سواها المسؤولة عن سعي كل متضرر أو مطالب بالعدالة إلى الاستعانة بأي "جهات خارجية" تعيد له حقه.