تزداد توقعات كثيرين هذه الأيام أن الاتفاق النووي لن يوقع، إلى حد جزم البعض بهذا. ستكون الخسارة المتأتية من الفشل في توقيع هذا الاتفاق أعلى بكثير من الفائدة التي سيجنيها الطرفان من التوقيع. على أساس حساب الربح والخسارة، ستتجه أميركا وإيران نحو توقيع الاتفاق لأن خيارات عدم التوقيع باهظة جداً لكليهما، وإن على نحو مختلف لكل طرف.
بالنسبة لإيران سيعني توقيع الاتفاق النووي رفع ثلاثة أنواع من العقوبات التي أضرت بالاقتصاد الإيراني على نحو جسيم: عقوبات أممية وأوروبية وأميركية. العقوبات الأميركية هي الأقوى تأثيراً، خصوصاً العقوبات الثانوية التي تتعلق بأطراف ثالثة.
المقصود بهذه العقوبات تلك التي تتعلق بالدول الأخرى التي لها علاقات مع إيران، وتشترط الولايات المتحدة عليها إيقاف تعاملها الاقتصادي مع إيران بالدولار الأميركي، خصوصاً استيراد النفط الإيراني، وإلا ستخسر تعاملها الاقتصادي مع أميركا وتخضع للعقوبات الاقتصادية للأخيرة.
في حال توقيع الاتفاق النووي ستكون العقوبات الثانوية آخر العقوبات التي تُرفع: بعد أربعة أشهر من توقيع الاتفاق. ما أن تُوقع إيران الاتفاق، سيتم رفع عقوبات أولية أو مباشرة، ومعظمها يتعلق بإلغاء تجميد أموال إيرانية في مصارف غربية، بحدود سبع مليارات دولار، ثم تدريجياً دخول إيران في السوق العالمي. غادرت الكثير من الشركات العالمية الكبرى إيران، ورفضت التعامل معها، بعد فرض الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، العقوبات الثانوية في عام 2018 في إطار إستراتيجية الضغوط القصوى.
ما الذي ستجنيه إيران من عدم التوقيع على الاتفاق النووي؟ المزيد من المصاعب: ليس فقط بقاء العقوبات الحالية الكثيرة ضدها، بل إضافة المزيد منها، بينها إلغاء الاعفاءات الأميركية لدول مثل الهند والعراق وباكستان التي تستورد نفطاً ايرانياً. أيضاً لن تستفيد إيران من استمرارها في برنامجها النووي وصولاً إلى صناعة القنبلة الذرية الذي لن يسمح به الغرب على أي حال. لكن على افتراض قدرة إيران على صناعة مثل هذه القنبلة، وهو أمر ممكن لها في غضون فترة قصيرة نسبياً لا تتجاوز أشهر إذا قررت ذلك، بحسب خبراء كثيرين، ما هي الفائدة من الحصول على هذه القنبلة؟ ستتحول هذه القنبلة إلى عبء على إيران وليس منفعة لها. أولاً، الصعوبة الإيرانية الأكبر تقنية بهذا الصدد وهي أنه ليس لدى إيران الأداة التي تستطيع عبرها استخدام هذه القنبلة الذرية وإيصالها إلى هدفها، أي صواريخ أو طائرات من نوع خاص لا تمتلكها إيران وسيكون صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، عليها تطويرها خصوصاً في ظل عقوبات غربية ودولية متصاعدة ضدها.
ثانياً، سيؤدي قيام إيران بتصنيع قنبلة نووية إلى تحشيد دول المنطقة ضدها خوفاً من إيران نووية تمارس الضغوط عليها وتبتزها. لن تقف دول المنطقة مكتوفة الأيدي إزاء مثل هذا السيناريو وستلجأ إلى تحصين نفسها عسكرياً وحتى البدء ببرامج نووية ذات طابع عسكري. يقود مثل هذا الأمر إلى توتر عال في المنطقة وسباق تسلح غير مسبوق، لن يكون بمقدور إيران محاصرة اقتصادياً خوضه بسبب الكلف العالية التي يتطلبها.
عبر هذا كله، ستزيد إيران من عدد خصومها إقليمياً ودولياً ويتراجع عدد المتعاطفين القليلين معها، وتضعف اقتصادياً على نحو متزايد. هذا سيناريو شبيه بسيناريو نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حين قاد الإنفاق العسكري الأميركي المتزايد في إطار سباق تسلح شرس حينها، بضمنه برنامج حرب النجوم المكلف اقتصادياً، إلى هزيمة الاتحاد السوفياتي الذي لم يستطع مجاراة أميركا في الإنفاق العسكري.
في الحقيقة، الخيارات المتاحة لإيران في حالة عدم إبرام الاتفاق النووي محدودة ومتجهمة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ولن يكون من مصلحتها الذهاب إلى أي من هذه الخيارات. خيارها الأفضل هو توقيع الاتفاق النووي.
من مصلحة أميركا توقيع الاتفاق النووي أيضاً، فعدم توقيعه سيجعلها في وضع صعب، وإن لم يكن بالصعوبة الشديدة التي تواجهها إيران. فاحتمالات صناعة إيران لسلاح نووي وبدء سباق تسلح نووي في المنطقة سيضيف على أميركا أعباءً كثيرة، عسكرية وسياسية، وربما اقتصادية، لتأمين حلفائها في المنطقة وردعهم في الوقت ذاته: تأمينهم ضد إيران نووية وردعهم ضد تطوير أسلحتهم النووية الخاصة بهم. هذه معادلة صعبة واحتمالات النجاح فيها ضئيلة، أساساً بسبب تراجع الثقة لدى الكثير من حلفاء أميركا بالتزامها الدائم والراسخ بأمنهم. ولذلك سيصر بعض هؤلاء الحلفاء على الأقل على تطوير خياراتهم الخاصة والمستقلة بهم بازاء إيران.
حتى الخيار المنطقي والأكثر واقعية لأميركا في حالة عدم توقيع الإتفاق ومواصلة إيران أنشطتها النووية وصولاً لصناعة قنبلة نووية يبقى خياراً شاقاً ومكلفاً. إنه خيار القيام بعمل عسكري أميركي واسع لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، إذ أعلن مسؤولون أميركيون في سياقات مختلفة أن هناك خططاً بديلة للتعاطي مع الملف النووي الإيراني إذا لم يتوصل الطرفان الى إتفاق. كانت هذه إشارة واضحة على استعداد أميركي للقيام بعمل عسكري ضد إيران. حتى مع قدرة أميركا العسكرية على القيام بذلك، فإن مثل هذا العمل العسكري سيشعل المنطقة بالمزيد من النزاعات المسلحة، خصوصاً حروب الوكالة في أماكن مختلفة فيها في ظل قدرة إيران على الاستفادة من حلفائها وانصارها الكثيرين في إطار ما يُعرف بمحور المقاومة المنتشرين في بلدان عديدة في المنطقة. إشعال هذه النزاعات شيء قد يكون سهلاً، لكن إخمادها شيء آخر مختلف تماماً يكون عادةً صعباً. من أجل ادامة هذه الخيارات ومواصلة الضغط على إيران وحماية حلفائها، ستحتاج الولايات المتحدة نشر المزيد من قطعاتها العسكرية، خصوصاً البحرية، في المنطقة، وإبقائها فيها على مدى زمن مفتوح قد يكون طويلاً لحين التوصل إلى إتفاق سياسي مُقنع ينهي النزاع وهو أمر ليس مؤكداً. لا رغبة أميركية بهذا الصدد، خصوصاً في ظل انشغال الولايات المتحدة بملف الحرب الأوكرانية-الروسية، وذهاب الخطط الاستراتيجية الأميركية منذ أكثر من عقد تقريباً نحو التركيز على مناطق أخرى في العالم، مثل آسيا والمحيط الهادئ، بعيداً عن الشرق الأوسط.
مصلحة إيران هي توقيع الاتفاق، فالكُلف التي ستدفعها في حال رفضها التوقيع أعلى بكثير من الكلف التي ستدفعها أميركا. هذا سيكون حافزَ إيران الأهم كي تُمضي الصفقة النووية، وترفع أو تتراجع عن تحفظات اللحظة الأخيرة التي قدمتها على المسودة النهائية للاتفاق وعطلت التوقيع، إلا إذا انتصرت الرغبات الأيديولوجية على المصالح الوطنية. حينها ستكون إيران بإزاء وضع أشد سوءاً من وضعها الحالي وعلى نحو مفتوح.