أيا كان موقفك منه، يعد الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف الذي رحل عن دنيانا قبل أيام الزعيم الأهم عالميا في نصف القرن الأخير.

يتفق على ذلك مادحوه وناقدوه، من يرونه بطلا للسلام أنهى الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن وبدأ خفض خطر الحرب النووية بين الشرق والغرب ومن يرونه بطلا للغرب فقط فكك القوة العظمى الثانية في العالم وأدخل بلاده في فوضى بلغت قمتها مع أول رئيس لروسيا (بعد نهاية الاتحاد السوفيتي) خلفه وهو بوريس يلتسين.

بدا ذلك واضحا من رد فعل العالم على وفاته عن عمر ناهز التسعين عاما، وبعد سنوات من المرض. إلا أن ذلك لم يمنع بعض الإعلام الغربي المغالي في الغوغائية يقول إنه لم يتحمل غزو الرئيس فلاديمير بوتين لأوكرانيا فمات قهرا، خاصة وهو المرتبط عاطفيا بأصوله الأوكرانية من ناحية والدته.

في المقابل، تجد في روسيا والغرب وعالمنا العربي من يقول إنه كان أخطر عميل لأميركا والغرب على الاطلاق إذ قام بتفكيك بلاده والقضاء على قدراتها والسير في ركاب أميركا وأوروبا.

هناك بعض العذر لهؤلاء، رغم الشطط الشديد لمقولاتهم. فنادرا ما شهد التاريخ زعيما لقوة عظمى يشطب تركيبة السلطة التي جعلته زعيما عالميا، ليفقد بعد ذلك سلطته بل ومكونات بلده قطعة قطعة ومصدر قوة بعد مصدر قوة. كما أن الإعجاب السياسي والإعلامي الغربي وقتها (من منتصف الثمانينات حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي) بالرجل كان غير مسبوق، وهو ربما ما يفسر تصور البعض أنه "جاسوس" أميركي أو غربي.

من باب المقارنة للتقريب فحسب، مع الأخذ في الاعتبار الفارق الكبير بين الحالتين، يشبه الموقف من غورباتشوف ذلك الموقف من الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي احتفى به العالم لأنه أول زعيم عربي يقيم سلاما مع إسرائيل من ناحية ولأنه قاد تحولا في بلاده من الاقتصاد المركزي الذي تسيطر عليه الدولة إلى اقتصاد السوق. في الوقت نفسه انتقده كثير من المصريين بعدما لقبوه ببطل الحرب والسلام لأنه صدم المجتمع بسياسة الانفتاح الاقتصادي.

أما خارج مصر، فعذره كثيرون على نتائج ذلك التحول ممتدحين رؤيته وملقين باللوم على البيروقراطية المصرية التي قاومت التطور والتحول نحو اقتصاد المفتوح.

وتجد الآن من في رثائه للزعيم السوفيتي السابق غورباتشوف من يلقي باللوم على الغرب، ويرى أن مشكلته الوحيدة أنه صدق الوعود الغربية بمساعدة بلاده على التحول والانفتاح وأن الغرب خذله ولم يدعمه بما يجعل مشروعه ناجحا يرضي شعبه. ونجد أيضا من يعيد النظر في إرث غورباتشوف مستندا إلى "الحكمة المتأخرة"  ويعذره في أنه ما كان يريد لبلده الكبير أن يتفكك، لكن علاجه بالصدمة لأوضاعه المتدهورة جعلت الأمور تفلت من يديه – وهذا تفسير أقرب للمنطق إلى حد كبير.

لكن، ربما كان أقرب وصف للعقلانية هو ما كتبه الصحفي البريطاني المخضرم جون سيمبسون من أن غورباتشوف كان "رجلا طيبا لكن بدون رؤية". فحين انتخب غورباتشوف، بعد 3 من زعماء الاتحاد السوفيتي لم يقض كل منهم كثيرا في السلطة بسبب كبر السن والمرض كان وضع البلاد متراجعا اقتصاديا وفي حالة من الجمود السياسي والاجتماعي.

فأراد الرجل حراكا يعيد للاتحاد حيويته وكانت قناعته أن المشكلة في تركيبة السلطة وحكم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وذلك ما جعل البلاد متخلفة عن التطور في العالم. فبدأ منذ توليه السلطة عام 1985 في طرح مبادرات مثل "بريسترويكا" و"غلاسنوست" وتغيير النظام السياسي لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم. وكانت النتيجة أن شجع ذلك الدول المكونة للاتحاد على السعي للانفصال، ومع كل منها جزء من مقومات قوة الاتحاد. ولم يستطع غورباتشوف وقف ذلك التفكك، الذي بما لم يكن يتوقعه ولا يريده. ولا شك أن أميركا والغرب ساعدت على ذلك، فلم تنته عقلية الحرب الباردة طبعا، كما تصور غورباتشوف ربما بسذاجة استراتيجية.

لكن البقعة السوداء التي لطخت إرث غورباتشوف بشدة كانت وضع ما بقي من الاتحاد، روسيا، ومن خلفه بوريس يلتسين كأول رئيس للاتحاد الروسي بعدما كان الاتحاد السوفيتي. ليس القصد القاء اللوم على يلتسين لتنظيف سمعة غورباتشوف، ولكن ما حدث من فساد ونهب لثروات البلاد واخراج كبار "الحرامية" التريليونات من البلاد إلى الغرب وبيع كل شيئ (بما في ذلك القدرات النووية السوفيتيية في الدول المفككة) في السوق السوداء جعل الروس يلقون باللوم على غروباتشوف لأنه من بدأ عملية الانهيار من وجهة نظرهم.

كل ذلك ما يجعل إرث غورباتشوف الأهم والأكثر جدلا في التاريخ الحديث. وسواء كان متفائلا بمثالية أو صاحب رؤية لا يمكن تحقيقها أو مغامر قليل الحنكة السياسية أو مخلص أراد لبلاده خيرا فواجهته صعاب لم يستطع التغلب عليها .. الخ، ففي النهاية كانت فترة حكمه القصيرة بداية نهاية ثنائية القطبية في النظام العالمي ودخول العالم في مرحلة البحث عن "نظام عالمي جديد" ما زال لم يصل إليه بعد.