أزمة الطاقة العالمية الحالية أربكت معظم الاقتصادات في دول العالم المختلفة، خصوصا الصناعية منها، التي تعتمد على النفط والغاز، لكنها في الوقت نفسه تشكل فرصة نادرة لدول أخرى، منها دول الشرق الأوسط، لتنمية اقتصاداتها وفق أسس عصرية سليمة.

واستنادا إلى صندوق النقد الدولي، فإن دول الشرق الأوسط، وخصوصا دول الخليج العربي، سوف تكسب مبالغ إضافية قدرها ترليون وثلاثمئة مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة، كنتيجة مباشرة لارتفاع أسعار النفط والغاز.

إنها حقا فرصة نادرة تتوفر لدول الشرق الأوسط المنتجة للطاقة، في عصر كانت التوقعات إلى عهد قريب تشير إلى تراجع أهمية الوقود الأحفوري، بسبب توفر البدائل المحتملة له، والحاجة الملحة لتقليص التلوث من أجل تحسين البيئة وكبح الاحترار الكوني. مثل هذه الفرص، التي لا تتكرر دائما، توفر رؤوس الأموال المطلوبة لتحديث الاقتصاد وعصرنته وتنويع مصادر الدخل وإعادة تأهيل القوى العاملة وإصلاح النظام التعليمي ورفع مستوى الخدمات.

وقد دعا الخبير الاقتصادي، جهاد أزعور، مدير قسم الشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي، ووزير المال اللبناني الأسبق، في مقابلة مع جريدة "فايننشال تايمز" البريطانية، الدول المستفيدة من ارتفاع أسعار الطاقة إلى استغلال هذه الفرصة النادرة "للاستثمار في المستقبل"، محذرا من أنها يمكن أن تتحول إلى ما يعرف اقتصاديا بـ procyclicality، أو "النزعة المسايرة للاتجاهات الدورية"، بعبارة أخرى، أن الأموال الإضافية، إن لم تُوَظَّف لأغراض تنموية مدروسة، فإنها سوف تعزز الاتجاهات الحالية في الاقتصاد، التي قد تُحدِث تشوهاتٍ غير منظورة.

دول الخليج العربي عموما، والسعودية والإمارات تحديدا، نجحت في استثمار أموال الريع النفطي في تنويع الاقتصاد والابتعاد به تدريجيا عن الاعتماد على النفط، الذي لم يعد يشكل سوى 46% من الناتج المحلي الإجمالي السعودي، بينما يشكل حوالي 16% فقط من الناتج المحلي الإجمالي الإماراتي.

إضافة إلى ذلك، فقد أسست دول الخليج العربي جميعا، ومنذ خمسين عاما، صناديق سيادية استثمارية توضع فيها رؤوس الأموال الفائضة، لتُستثمر في مشاريع وطنية وعالمية مربحة، من أجل تنميتها ووضعها في متناول الأجيال المقبلة. ولا شك أن الأموال الإضافية سوف تستثمر هذه المرة في مجالات جديدة ومبتكرة. وفي هذا المجال تشكل دول الخليج مثالا ناجحا يستحق التقليد.

مرة أخرى، هذه الفرصة لن تتكرر، لذلك يجب استثمارها في إعادة بناء الاقتصاد على أسس علمية سليمة والابتعاد عن الاتكال كليا على إيرادات الموارد الطبيعية.

ومن الدول العربية المؤهلة للاستفادة من ارتفاع أسعار الطاقة هي الجزائر، التي تمتلك احتياطيات غازية كبيرة، تقدر بمليارين وأربعمئة ألف متر مكعب، بينما يشكل قربها من أوروبا، ووجود خط "ترانزمد" الناقل للغاز عبر البحر المتوسط، عاملين مهمين لتمكين هذه الدولة الكبيرة، من أن تصدِّر الغاز والنفط وتستثمر الأموال المتأتية منهما في قطاعات الاقتصاد الأخرى، خصوصا السياحة والخدمات والصناعات الخفيفة والمتوسطة، الأمر الذي يقلص من الفقر، ويدفع نحو الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بل والتميُّز الاقتصادي.

الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، طمأن ضيفه، رئيس الوزراء الإيطالي السابق، ماريو دراغي، أثناء زيارته الجزائر منتصف يوليو الماضي، لتوقيع اتفاقية لتصدير الغاز إلى إيطاليا، بقيمة أربعة مليارات دولار، بأن الجزائر "سوف تكون أحد أهم مجهزي الطاقة التقليدية والكهربائية لأوروبا".

وقد أعلنت شركة سوناتراك الجزائرية مؤخر عن اكتشافها، بمفردها، حقلين جديدين للغاز، وحقلا ثالثا للنفط بالتعاون مع شركة "إيني" الإيطالية. وقالت سوناتراك في بيان بتأريخ 25 يوليو الماضي إن الحقل الأول في الجنوب الشرقي من البلاد، ينتج 513,000 متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميا، و45 ألف متر مكعب من الغاز السائل. أما الحقل الثاني، فلم تحدد حجم انتاجه، لكنها قالت إنه ينتج كمياتٍ مهمة.

وإذا ما سخَّرت الجزائر إيراداتها الجديدة المضاعفة من النفط والغاز لتطوير اقتصادها وتنويعه وتحديثه، والتركيز على الجوانب التي يمكن أن تتميز بها، وخفض البطالة وتوفير الخدمات لسكانها، البالغ عددهم 44 مليون نسمة، فإنها ستحرز تقدما كبيرا يساهم في جعلها دولة قوية ومهمة عالميا.

كما يمكن العراق أن يستفيد فائدة عظمى من هذه الفرصة، خصوصا عندما يطور حقوله الغازية ويسعى لاستثمار الغاز المصاحب للنفط، الذي يحترق في الفضاء منذ مئة عام، ملوِّثا البيئة، ومسبِّبا أمراضا خطيرة في المدن النفطية العراقية، خصوصا مدينة البصرة ذات الأربعة ملايين نسمة، التي تنتج أكثر من 80% من النفط العراقي، وقد تلوثت فيها البيئة بشكل خطير وانتشرت فيها الأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية، كنتيجة مباشرة للتلوث المنبعث من قطاع النفط.

ينتج العراق حاليا 4.1 مليون برميل يوميا، إذ تراجع انتاجه عما كان عليه عام 2019، إذ كان حينها 4.78 مليون برميل يوميا. مع ذلك فإن الأموال المتأتية حاليا من تصدير النفط كبيرة بكل المقاييس، ويمكن أن تُحدِث تغييرا جذريا ونوعيا في الاقتصاد العراقي، إذا ما استُثمرت في تحديث الاقتصاد ورفع كفاءة القطاعات الإنتاجية والخدمية.

ولكن، في الظروف الحالية، لا يبدو أن العراق سيستفيد من هذه الفرصة النادرة، خصوصا مع ضعف الحكومة، التي استقال وزير ماليتها، علي علاوي، قبل أيام بسبب استشراء الفساد، ومحدودية الصلاحيات، كونها حكومة تصريف أعمال يومية منذ أكثر من عشرة أشهر، وكذلك بسبب الصراع المحتدم بين الجماعات السياسية المشترِكة في السلطة منذ عام 2003، هذا الصراع الذي يهدد باندلاع صراع دموي مدمر إذا ما خرجت الأوضاع عن السيطرة.

وفي كل الأحوال، فإن هذه الصراعات أربكت عمل مؤسسات الدولة، وبعثت اليأس في نفوس العراقيين حول إمكانية تجاوز الخلافات وتشكيل حكومة عراقية كفوءة، تنهض بالاقتصاد وتبْسِط الأمن وتحسن الخدمات وتقلص البطالة وتتعامل بإنصاف وعدالة مع العراقيين كافة.

لكن الجماعات المتصارعة على السلطة والثروة، وبعد أن عجزت عن حل خلافاتها والاتفاق على تقاسم السلطة، لجأت إلى زج أتباعها في الشوارع والساحات العامة كي تخيف بعضها بعضا. لا يفكر قادة هذه الجماعات، التي تنتمي في تفكيرها إلى عصور سحيقة، بالدولة العراقية، وجُل اهتمامهم مُنْصَبٌّ على مستقبلهم الشخصي، واحتمالات بقائهم في السلطة، من أجل اقتسام الثروة الريعية، التي تهطل عليهم دون عناء أو جهد أو تخطيط. كثيرون من هؤلاء لم يدرسوا في مدارس أو جامعات أكاديمية أصولية، بل تلقوا تعليما في الحوزات والمدارس التي أنشأوها وفق أسس بدائية من أجل التظاهر بالمعرفة وخداع البسطاء.

وحتى إن اتفقت هذه القوى على صيغة معينة، وأحسب أنها سوف تتفق، لأن الخلاف بينها ليس حول المصلحة العامة، أو كيفية خدمة الدولة والمجتمع، بل على تقاسم المغانم "بعدالة"، حسب نتائج الانتخابات الأخيرة، المختلَف على صدقيتها أو عدالة تمثيلها للقوى المشاركة فيها، فإن الأموال الإضافية سوف تذهب إلى جيوب الفاسدين وخزائن دول أخرى، وسوف يبقى العراق يترنح ويتدهور ليصبح فريسة لقوى خارجية طامعة، تمكنت من أن تجد لها موضع قدم بسبب حفنة من الأتباع الأيديولوجيين المغرر بهم.

الدولة الأخرى التي تحاول الاستفادة من هذه الفرصة التأريخية، هي مصر، التي تسعى جاهدة إلى ترشيد استهلاك الطاقة، كي توفر الغاز للتصدير. وقال رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، إن حكومته تخطط لتقليص الاستهلاك، ليشمل تقليص الأضواء في الشوارع والمنشآت الرياضية، وخفض التبريد في الأماكن العامة، من أجل توفير الغاز لأغراض التصدير ومساعدة الدول الأخرى لسد حاجتها من الطاقة.

وتشكل صادرات مصر 3.2% من إجمالي الطلب العالمي على الغاز السائل، وهي نسبة متدنية، لكن اكتشاف حقول بحرية جديدة، قد رفع من أهمية مصر العالمية في قطاع الطاقة. وقد قاربت إيرادات مصر من الطاقة أربعة مليارات دولار في الأشهر الأربعة الأولى فقط من عام 2022. ويقول مدبولي إن مصر تحاول الاستفادة من مصادرها الطبيعية لرفع احتياطيها من العملات الأجنبية.

وحسب مجلة "كوارتز" الاقتصادية العالمية، فإن ترشيد إنفاق الكهرباء في مصر بمقدار الثلث، سوف يوفر (570 ألف قدم مكعب) من الغاز، أو ما يعادل 1.2% من الطلب العالمي على الغاز السائل، وهي نسبة لن تؤثر كثيرا في ميزان الطاقة العالمية، لكنها تؤثر إيجابا في موازين الاقتصاد المصري. وترى المجلة أن مصر سوف تحوِّل صادراتها من آسيا إلى أوروبا لتعظيم مواردها المالية بسبب ارتفاع الأسعار في أوروبا.

هناك أيضا تفاهم بين دولتي السودان وجنوب السودان حول زيادة إنتاج النفط والغاز، بهدف الاستفادة من ارتفاع أسعار الطاقة العالمية. وقد اجتمع وزيرا النفط في البلدين في جوبا مطلع الشهر الجاري، وحَسَما العديد من الملفات الخلافية بينهما، وفق "الاتفاقية المالية الانتقالية" بين البلدين، واتفقا على ألا يتخذ أيٌّ منهما قرارا منفردا يمكن أن يؤثر على قطاع النفط في البلدين، والهدف في آخر المطاف هو وضع الماضي خلفهما والتطلع إلى المستقبل والاستفادة من ارتفاع أسعار الطاقة.

أزمة الطاقة العالمية تشكل فرصة تأريخية نادرة لبلدان الشرق الأوسط، كي تستفيد من مواردها الطبيعية وتستثمر رؤوس الأموال المتولدة منها في تحديث وتنويع اقتصاداتها، ورفع كفاءة الأيدي العاملة، واستغلال الفرص الاقتصادية المحتملة لخدمة شعوبها، كي تلتحق بالركب العالمي.

إنها فرصة نادرة لتفكيك الدولة الريعية التي تسببت في إفساد الأنظمة السياسية وخلق دكتاتوريات مدمرة ساهمت في إضعاف الدول وإفقار المجتمعات. يبدو أن المسؤولين في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جميعا يدركون قيمة هذه الفرصة، ومستعدون لاغتنامها، باستثناء الجماعات التأريخية المتصارعة في العراق، التي ستُضيع هذه الفرصة، كما أضاعت فرصا ثمينة أخرى.